أنا ياسيدي كهل في الثمانين من عمري, أعيش في أيامي الأخيرة أقسي الساعات, يجافيني النوم, وتؤلمني نفسي اللوامة أكثر مما تؤلمني أمراضي, ولن يستريح قلبي حتي أعترف بكل أخطائي, علي أمل ان تقرأ ابنتي كلماتي ـ فهي مدمنة لهذه الصفحة ـ وتخبرني بأنها سامحتني علي كل ما فعلته معها وعلي ظلمي لها طوال سنوات عمرها.
ابنتي هذه كانت وش السعد علي, فبعد مجيئها, جاء معها الخير, فتحول حالي من فقر شديد, الي ثراء ورفاهية, إلي سيارات ورصيد في البنك.
ولكني لم ألتفت الي رسالة الله الكريمة, لأني وبكل صدق لم أكن أحب البنات, وكنت أتمني ان تكون ولدا... لم أكن سعيد ولم أعرها اهتماما ولم أمنحها حب وعطف وحنان الأب, وكان كل تركيزي هو الدعاء لله العلي القدير ان يرزقني الولد الصحيح المعافي, كانت زوجتي تشاركني في كل شيء, بل الحقيقة انها كانت أكثر قسوة مني, فلم تشعر بأنها أم, وكانت تري أن أمومتها ستتحقق عندما تنجب ولدا.
استجاب الله لدعائنا بعد عشر سنوات وأنجبنا الولد, ولن أصف لك مقدار سعادتنا, تحولت حياتنا وكأنه أول مولود, فتفرغنا أنا وأمه لتدليله وتلبية رغباته, وشاركت الابنة محبة مرات ومرغمة أغلب الوقت, فكنا نهينها ونعاقبها اذا لم تلتفت له وتستجب لأحلامه.
لا تسلني عن العدل بين الابناء, فهذا كان أبعد تصور لدي ولدي زوجتي التي كانت تشجعني ـ سامحها الله ـ علي هذه التفرقة, وتري كل العيب والعار في المساواة بينهما.
نشأت ابنتي تقبل منا أي شيء, ولا تعترض علي اهتمامنا وإنفاقنا ببذخ علي شقيقها, وعلي الرغم من رضاها البادي علي تصرفاتها, الا اني كنت ألمح في عينيها عتابا وانكسارا, وأتعمد تجاهلهما, دون ان يهتز قلبي أو ضميري. اتحدث عن نفسي ولا أريد أن أتحدث عن أمها كثيرا, لانها الان بين يدي الرحمن ـ فهي ـ غفر الله لها ـ كانت أكثر قسوة وظلما, بل طالما حرضتني هي وابننا علي ظلمها.
أعترف الان لابنتي أمامكم بأني كنت أبخل عليها في مصاريف الدراسة, فيما أنفق علي ابني بالآلاف, كنت أمنحه في أربعة أشهر فقط أكثر مما انفقته علي ابنتي أثناء تجهيزها للزواج, فقد وافقت علي خطبتها مبكرا وهي في الجامعة وقلت لها عليك ان تعتمدي علي نفسك مع خطيبك لتأثيث عش الزوجية, وتركتها تبيع شبكتها لتنفق علي دراستها, فيما أنفقت علي ابني وخطيبته في كلية الطب لمدة ثلاث سنوات ما يقارب مائة الف جنيه.
كنت إذا اشتريت لها شيئا, ضاعفت سعره, وكأني أمن عليها, وأشعرها كم هي عبء علي, ولم أبخل علي ابني, فمنحته ربع مليون جنيه لتأثيث عيادته, وحتي لا تنظر اليه قلت لها انه استدان ليؤثث عيادته الخاصة.
هل لك ان تتخيل ابنتي تذهب الي المستشفي بمفردها لإجراء جراحة, فلا نذهب معها, تترك زوجها مع أبنائها وتذهب هي مع صديقتها ونمر عليها بعد الجراحة كالغرباء, وتشاء الأقدار ان يجري ابني نفس الجراحة فلا يغمض لنا جفن, ندخله أفضل مستشفي ونحضر له أكبر الأطباء, ولا نفارقه لحظة واحدة حتي يخرج سالما.
سيدي.. لا أصدق ما فعلته وزوجتي بابنتنا, أستعيد الأشياء وأكاد أفقد صوابي, وأذوب خجلا مما فعلنا, كيف أعمي الله بصيرتي وأغلق قلبي الي هذا الحد, ولكن أرجوك تحملني ولا تصب علي غضبك, فالقادم أكثر ظلما وإيلاما.
أصيب زوج ابنتي بمرض في قلبه, مما كان يستدعي منها جهدا مضاعفا للاعتناء به, وهو كان كريما رءوفا بها, حريصا علي ارضائها, وإرضاء أهلها حتي لو كان هذا علي حسابه وحساب أبنائهما.
ذات يوم مرضت زوجتي, واحتاجت الي من يرعاها, فالخادمة لاتصلح لهذا الوضع, فطلبت من ابنتي ان تأتي لتعيش في عمارتنا, فتقرر زوجتي وابني ان تقيم في شقة علي السطوح بجوار الخادمة ـ لأن هذا مقامها ـ ويسارع ابني بتأجير شقة أخري في الطابق الثاني بنصف قيمتها حتي لا تطمع فيها, وعندما تشكو الابنة من صعوبة صعود السلم علي زوجها المريض, نقول لها هذا هو المتاح, فتجري في الشوارع بامكاناتها البسيطة بحثا عن شقة بجوارنا, رحمة بزوجها, ولم يهتز لنا جفن, بل الادهي من ذلك, اجر ابني الشقة التي في السطوح حتي لا تضع فيها بعض أشيائها.
أتذكر الان, ابني وهو يبتزني, ويخبرني بانه أقل من أقرانه, فأبذل كل جهدي لمنحه المزيد من النقود, وأنا في حالة فزع أن يمرض بسبب إحساسه, وألا يكون آمنا بعد موتي, فزع أصابني بالقلب وأنا في الاربعينيات من عمري, ولكن كله يهون من أجل الولد الذي سيخلدني ويحمل اسمي الي الأبد, لذا كنت أبيع ما أملك لأمنح المقابل له, وأخبر ابنتي اني بعته بعشر ما بعته, حتي لاتشعر بأني مقصر معها, وان علقت ابنتي بكلمة تنفجر زوجتي في وجهها مستخدمة اسطوانة مشروخة تعدد فيها ما فعلته من أجلها وهي لاتقدر, فتنهار ابنتي بالبكاء وتنقض علي يدي أمها لتقبلهما طالبة الصفح والعفو.
مات زوج ابنتي, وتعاملنا كعادتنا معها بكل فتور, كنا اخر المعزين... لا أعرف ولا أفهم, كيف صبرت علينا ابنتنا... المسكينة الرحيمة لم تفق من موت زوجها, حتي ماتت ابنتها, تلك الحفيدة التي تركناها مريضة, وتركنا أمها تستدين من الاخرين لعلاجها, ونحن بقلوبنا المتحجرة كأن شيئا يحدث ليس لنا أي علاقة به, ولكن يوم الحق كان قريبا, وانتقام الله العادل كان قريبا.
سقطت مريضا ياسيدي, واستدعت حالتي نقلي الي المستشفي, جاءت ابنتي لتجلس تحت قدمي, تركت كل شيء لخدمتي, أما ابني وزوجته فكانا يمران علي لدقائق, تاركين أطفالهما في السيارة, مما أغضب زوجتي فذهبت للوم زوجة ابني في بيتها, فلاقت ما لا تتوقعه من إهانات وشتائم علي مرأي ومسمع ابنها الجالس علي السرير لم يبرحه. فعادت زوجتي مقهورة, لتموت كمدا قبل أن تنطق الشهادتين. إنشغلنا في إعداد الجنازة لدفنها في قريتنا, وفجأة ونحن في المقابر, بحثت عن ابني فلم أجده بجواري, فزعت عليه
وقلت لمن حولي: ابحثوا عنه فقد يقتل نفسه حزنا علي أمه, فأخبرني أحد الجيران, بأنه شاهده منذ قليل بسيارة نصف نقل, يحملها بأشياء من البيت, اكتشفت بعد ذلك أنه أخذ متعلقات أمه, أخذ كل ما خف وزنه وغلا ثمنه, وعاد إلينا في آخر الليل وفي عينيه دموع, نفس دموع أمه, دموع التماسيح.
إلتف الأهل والجيران حول ابنتي الحزينة, وبدلا من تقديم العزاء, كانوا يرجونها أن تسامح أمها, فالكل يعلم ماذا فعلنا بها.
بعد أن انفض الجميع من حولي, وعدت وحيدا إلي بيتي, سألني أخي كيف ستعيش؟.. فقلت له: ابنتي أولي بي, فصرخ في وجهي, ابنتك المريضة, ابنتك التي عذبتها وقسوت عليها وحرمتها من محبتك ومالك, وأذلت نفسها للآخرين, لماذا لا يكون ابنك الذي منحته كل ثروتك كل حنانك ومحبتك, هل سيرفض رعايتك؟ فأجبت بالنفي, فقالوا سيكون مصيرك مثل زوجتك.. فقررت أن أخوض الاختبار, وليتني ما فعلت.. يوم واحد يا سيدي, لم أر أسوأ منه في حياتي, فقد عشت الذل بمعناه من زوجته وأحفادي, ولأول مرة أفهم معني الآية الكريمة:.. آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا....
سيدي.. أنا الآن مريض, وحيد, أحتاج إلي عناية خاصة, ولا أستطيع تحمل مصاريف علاجي, ولا أجد أمامي وحولي الا ابنتي المريضة المظلومة.. ولكن ليس لي أمل في أيامي الأخيرة إلا أن تعفو عني وتسامحني, هي وكل من ظلمتهم, من أجل ابني, سامحه الله وهداه.. أرجوك ناشدها أن تغفر لي, فها أنا أتلقي جزاء ما اقترفت, وعقاب الله لي ماثل أمام عينيها, فلترح قلبي ولتسمعني كلمة واحدة: سامحتك يا أبي, بعدها يمكنني تحمل كل أنواع العذاب!
رد الكاتب :
* سيدي.. أدمتني رسالتك وأبكتني, ولا أعرف هل كنت أبكي حزنا علي ابنتك, الملاك الرائع المظلوم, المبتلاة المعذبة طوال حياتها.. أم كنت أبكي عليك وعلي ما وصلت اليه, وأنا أتخيل عذابك في مواجهة نفسك القاسية واستدعائك لكل الأيام والليالي التي آلمت فيها ابنتك وتركتها تنام ـ إذا كانت تنام ـ باكية مقهورة.
سيدي.. لا أجد في نفسي الجرأة أو القدرة علي مناشدة ابنتك أن تسامحك أو تعفو عما فعلته بها أنت وأمها, فمثل هذه الابنة لا يطلب منها, وقد فعلت كل شيء جميل ونبيل, دون أن تطلبوا منها شيئا, بل كنتم تطعنونها بخناجر قسوتكم, فترد إليكم الإساءة, باقة ورد, عطفا ومحبة, والتزاما بما أمرها الله سبحانه وتعالي, الذي ملأ قلبها حبا وتسامحا وكأنها من أهل الجنة, لا من بني البشر.
كثيرون غيرك ـ من الرجال ـ عقولهم أشد تصلبا وانغلاقا من أهل الجاهلية الأولي, الذين كانوا يئدون البنات, ويرون فيهن ذلا وعارا, فيما كل الفخر بإنجاب الولد, ولم يلتفتوا أبدا, علي الرغم من مرور ما يقرب من1500 عام علي ظهور الإسلام إلي قوله سبحانه وتعالي: وإذا بشر أحدهم بالأنثي ظل وجهه مسودا وهو كظيم. يتواري من القوم من سوء ما بشر به, أيمسكه علي هون أم يدسه في التراب, ألا ساء ما يحكمون, صدق الله العظيم.
الأغرب هي زوجتك ـ رحمها الله وغفر لها ـ والتي كانت بنتا, تتبني نفس الفكرة الذكورية, ولا تري أمومتها إلا في ابنها, لتصبحا أنتما ظالمين, لا يرد أحدكما الآخر, فتماديتما في ظلمكما وجهلكما, فغضب الله عليكما وزاد في غيكما, لتجنيا الحنظل بعد أن زرعتما المر. وعلي الرغم من أن الشاعر العربي المؤمل الكوفي يقول:
ينشأ الصغير علي ما كان والده إن العروق عليها ينبت الشجر فإن الله سبحانه وتعالي قد اصطفي ابنتك ونجاها من الشرور التي زرعتموها في نفسها منذ الصغر, فنقي قلبها, وزادها ابتلاء برحيل الزوج الحنون والابنة العليلة, ليطهرها ويحفظ قلبها من اختزان الحقد والكراهية.
فهي صاحبة نفس كبيرة رائقة, فمثل هذه النفوس وحدها تعرف كيف تسامح, لأنها كالشجرة لاتحجب ظلها حتي عن الحطاب.
سيدي.. أجد نفسي مدفوعا للكتابة عن وإلي ابنتك, فأنت يكفي ما أنت فيه وما تعانيه, فلست في حاجة مني إلي تأكيد كم الجرائم التي ارتكبتها, ولا أعتقد أن هناك إنسانا عاقلا, يفعل ما تفعله, ويقرأ كلماتك, ولا يرتدع أو يعود إلي صوابه, فإن لم يفعل من تلقاء نفسه وعلي الفور, فلن تجدي معه أي كلمات أوجهها له.
دعني أذكر ابنك, العاصي, قاسي القلب, ضحيتك أنت ووالدته, بما أمرنا به الخالق عز وجل, من بر الوالدين وطاعتهما ومصاحبتهما في الدنيا معروفا, ومنعنا حتي أن نقول لهما أف, فإذا كان جرم الوالدين أنهما بالغا في حبك وتدليك, ومنحاك كرم العنب, فهذا لا يعني أبدا ألا تقدم لهما عنقودا واحدا.
ودعني أذكره بالحكاية القديمة ـ إذا كان لا يعرفها ـ والتي تحكي عن رجل ضاق بوالده الذي كان يقيم معه, وكانت زوجته تنهره, وترفض أن يتناول طعامه معهم علي المائدة, فأعد له أطباقا متواضعة, يضع له الطعام ويقدمه له في المطبخ, ففوجيء بطفله, يسارع بعد أن ينتهي جده من تناول طعامه, بغسل الأطباق ووضعها علي الرف. سأله الأب لماذا تفعل ذلك بأطباق جدك, فأجابه بأنه يحافظ عليها, حتي يقدم فيها الطعام لوالده عندما يكبر.
ليست حكاية أيها الابن العاصي, ولكنها الدنيا, وكما تدين تدان, ومن أعمالك يسلط عليك, فهل ترحم أباك في شيخوخته, حتي ترحم نفسك في شيخوختك, وتنجو من عذاب أليم.. أتمني.
أما الابنة الرائعة, فلن أقول لها شيئا, فهي المعلمة التي يجب أن نستمع إليها, وكلي ثقة ـ دون أي مناشدة ـ أنها ستسامح والدها لأنها تعرف جيدا وعد الله في كتابه العزيز.. وليعفوا وليصفحوا, ألا تحبون أن يغفر الله لكم.... مثل هذه الابنة تؤمن بفطرتها النقية بالحكمة القائلة: أحب أباك إذا كان منصفا, وإذا لم يكن كذلك, فتحمله.
زادك الله عزا بعفوك, وأنار دربك, وصبرك علي ما عانيته.. وإلي لقاء بإذن الله.
ابنتي هذه كانت وش السعد علي, فبعد مجيئها, جاء معها الخير, فتحول حالي من فقر شديد, الي ثراء ورفاهية, إلي سيارات ورصيد في البنك.
ولكني لم ألتفت الي رسالة الله الكريمة, لأني وبكل صدق لم أكن أحب البنات, وكنت أتمني ان تكون ولدا... لم أكن سعيد ولم أعرها اهتماما ولم أمنحها حب وعطف وحنان الأب, وكان كل تركيزي هو الدعاء لله العلي القدير ان يرزقني الولد الصحيح المعافي, كانت زوجتي تشاركني في كل شيء, بل الحقيقة انها كانت أكثر قسوة مني, فلم تشعر بأنها أم, وكانت تري أن أمومتها ستتحقق عندما تنجب ولدا.
استجاب الله لدعائنا بعد عشر سنوات وأنجبنا الولد, ولن أصف لك مقدار سعادتنا, تحولت حياتنا وكأنه أول مولود, فتفرغنا أنا وأمه لتدليله وتلبية رغباته, وشاركت الابنة محبة مرات ومرغمة أغلب الوقت, فكنا نهينها ونعاقبها اذا لم تلتفت له وتستجب لأحلامه.
لا تسلني عن العدل بين الابناء, فهذا كان أبعد تصور لدي ولدي زوجتي التي كانت تشجعني ـ سامحها الله ـ علي هذه التفرقة, وتري كل العيب والعار في المساواة بينهما.
نشأت ابنتي تقبل منا أي شيء, ولا تعترض علي اهتمامنا وإنفاقنا ببذخ علي شقيقها, وعلي الرغم من رضاها البادي علي تصرفاتها, الا اني كنت ألمح في عينيها عتابا وانكسارا, وأتعمد تجاهلهما, دون ان يهتز قلبي أو ضميري. اتحدث عن نفسي ولا أريد أن أتحدث عن أمها كثيرا, لانها الان بين يدي الرحمن ـ فهي ـ غفر الله لها ـ كانت أكثر قسوة وظلما, بل طالما حرضتني هي وابننا علي ظلمها.
أعترف الان لابنتي أمامكم بأني كنت أبخل عليها في مصاريف الدراسة, فيما أنفق علي ابني بالآلاف, كنت أمنحه في أربعة أشهر فقط أكثر مما انفقته علي ابنتي أثناء تجهيزها للزواج, فقد وافقت علي خطبتها مبكرا وهي في الجامعة وقلت لها عليك ان تعتمدي علي نفسك مع خطيبك لتأثيث عش الزوجية, وتركتها تبيع شبكتها لتنفق علي دراستها, فيما أنفقت علي ابني وخطيبته في كلية الطب لمدة ثلاث سنوات ما يقارب مائة الف جنيه.
كنت إذا اشتريت لها شيئا, ضاعفت سعره, وكأني أمن عليها, وأشعرها كم هي عبء علي, ولم أبخل علي ابني, فمنحته ربع مليون جنيه لتأثيث عيادته, وحتي لا تنظر اليه قلت لها انه استدان ليؤثث عيادته الخاصة.
هل لك ان تتخيل ابنتي تذهب الي المستشفي بمفردها لإجراء جراحة, فلا نذهب معها, تترك زوجها مع أبنائها وتذهب هي مع صديقتها ونمر عليها بعد الجراحة كالغرباء, وتشاء الأقدار ان يجري ابني نفس الجراحة فلا يغمض لنا جفن, ندخله أفضل مستشفي ونحضر له أكبر الأطباء, ولا نفارقه لحظة واحدة حتي يخرج سالما.
سيدي.. لا أصدق ما فعلته وزوجتي بابنتنا, أستعيد الأشياء وأكاد أفقد صوابي, وأذوب خجلا مما فعلنا, كيف أعمي الله بصيرتي وأغلق قلبي الي هذا الحد, ولكن أرجوك تحملني ولا تصب علي غضبك, فالقادم أكثر ظلما وإيلاما.
أصيب زوج ابنتي بمرض في قلبه, مما كان يستدعي منها جهدا مضاعفا للاعتناء به, وهو كان كريما رءوفا بها, حريصا علي ارضائها, وإرضاء أهلها حتي لو كان هذا علي حسابه وحساب أبنائهما.
ذات يوم مرضت زوجتي, واحتاجت الي من يرعاها, فالخادمة لاتصلح لهذا الوضع, فطلبت من ابنتي ان تأتي لتعيش في عمارتنا, فتقرر زوجتي وابني ان تقيم في شقة علي السطوح بجوار الخادمة ـ لأن هذا مقامها ـ ويسارع ابني بتأجير شقة أخري في الطابق الثاني بنصف قيمتها حتي لا تطمع فيها, وعندما تشكو الابنة من صعوبة صعود السلم علي زوجها المريض, نقول لها هذا هو المتاح, فتجري في الشوارع بامكاناتها البسيطة بحثا عن شقة بجوارنا, رحمة بزوجها, ولم يهتز لنا جفن, بل الادهي من ذلك, اجر ابني الشقة التي في السطوح حتي لا تضع فيها بعض أشيائها.
أتذكر الان, ابني وهو يبتزني, ويخبرني بانه أقل من أقرانه, فأبذل كل جهدي لمنحه المزيد من النقود, وأنا في حالة فزع أن يمرض بسبب إحساسه, وألا يكون آمنا بعد موتي, فزع أصابني بالقلب وأنا في الاربعينيات من عمري, ولكن كله يهون من أجل الولد الذي سيخلدني ويحمل اسمي الي الأبد, لذا كنت أبيع ما أملك لأمنح المقابل له, وأخبر ابنتي اني بعته بعشر ما بعته, حتي لاتشعر بأني مقصر معها, وان علقت ابنتي بكلمة تنفجر زوجتي في وجهها مستخدمة اسطوانة مشروخة تعدد فيها ما فعلته من أجلها وهي لاتقدر, فتنهار ابنتي بالبكاء وتنقض علي يدي أمها لتقبلهما طالبة الصفح والعفو.
مات زوج ابنتي, وتعاملنا كعادتنا معها بكل فتور, كنا اخر المعزين... لا أعرف ولا أفهم, كيف صبرت علينا ابنتنا... المسكينة الرحيمة لم تفق من موت زوجها, حتي ماتت ابنتها, تلك الحفيدة التي تركناها مريضة, وتركنا أمها تستدين من الاخرين لعلاجها, ونحن بقلوبنا المتحجرة كأن شيئا يحدث ليس لنا أي علاقة به, ولكن يوم الحق كان قريبا, وانتقام الله العادل كان قريبا.
سقطت مريضا ياسيدي, واستدعت حالتي نقلي الي المستشفي, جاءت ابنتي لتجلس تحت قدمي, تركت كل شيء لخدمتي, أما ابني وزوجته فكانا يمران علي لدقائق, تاركين أطفالهما في السيارة, مما أغضب زوجتي فذهبت للوم زوجة ابني في بيتها, فلاقت ما لا تتوقعه من إهانات وشتائم علي مرأي ومسمع ابنها الجالس علي السرير لم يبرحه. فعادت زوجتي مقهورة, لتموت كمدا قبل أن تنطق الشهادتين. إنشغلنا في إعداد الجنازة لدفنها في قريتنا, وفجأة ونحن في المقابر, بحثت عن ابني فلم أجده بجواري, فزعت عليه
وقلت لمن حولي: ابحثوا عنه فقد يقتل نفسه حزنا علي أمه, فأخبرني أحد الجيران, بأنه شاهده منذ قليل بسيارة نصف نقل, يحملها بأشياء من البيت, اكتشفت بعد ذلك أنه أخذ متعلقات أمه, أخذ كل ما خف وزنه وغلا ثمنه, وعاد إلينا في آخر الليل وفي عينيه دموع, نفس دموع أمه, دموع التماسيح.
إلتف الأهل والجيران حول ابنتي الحزينة, وبدلا من تقديم العزاء, كانوا يرجونها أن تسامح أمها, فالكل يعلم ماذا فعلنا بها.
بعد أن انفض الجميع من حولي, وعدت وحيدا إلي بيتي, سألني أخي كيف ستعيش؟.. فقلت له: ابنتي أولي بي, فصرخ في وجهي, ابنتك المريضة, ابنتك التي عذبتها وقسوت عليها وحرمتها من محبتك ومالك, وأذلت نفسها للآخرين, لماذا لا يكون ابنك الذي منحته كل ثروتك كل حنانك ومحبتك, هل سيرفض رعايتك؟ فأجبت بالنفي, فقالوا سيكون مصيرك مثل زوجتك.. فقررت أن أخوض الاختبار, وليتني ما فعلت.. يوم واحد يا سيدي, لم أر أسوأ منه في حياتي, فقد عشت الذل بمعناه من زوجته وأحفادي, ولأول مرة أفهم معني الآية الكريمة:.. آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا....
سيدي.. أنا الآن مريض, وحيد, أحتاج إلي عناية خاصة, ولا أستطيع تحمل مصاريف علاجي, ولا أجد أمامي وحولي الا ابنتي المريضة المظلومة.. ولكن ليس لي أمل في أيامي الأخيرة إلا أن تعفو عني وتسامحني, هي وكل من ظلمتهم, من أجل ابني, سامحه الله وهداه.. أرجوك ناشدها أن تغفر لي, فها أنا أتلقي جزاء ما اقترفت, وعقاب الله لي ماثل أمام عينيها, فلترح قلبي ولتسمعني كلمة واحدة: سامحتك يا أبي, بعدها يمكنني تحمل كل أنواع العذاب!
رد الكاتب :
* سيدي.. أدمتني رسالتك وأبكتني, ولا أعرف هل كنت أبكي حزنا علي ابنتك, الملاك الرائع المظلوم, المبتلاة المعذبة طوال حياتها.. أم كنت أبكي عليك وعلي ما وصلت اليه, وأنا أتخيل عذابك في مواجهة نفسك القاسية واستدعائك لكل الأيام والليالي التي آلمت فيها ابنتك وتركتها تنام ـ إذا كانت تنام ـ باكية مقهورة.
سيدي.. لا أجد في نفسي الجرأة أو القدرة علي مناشدة ابنتك أن تسامحك أو تعفو عما فعلته بها أنت وأمها, فمثل هذه الابنة لا يطلب منها, وقد فعلت كل شيء جميل ونبيل, دون أن تطلبوا منها شيئا, بل كنتم تطعنونها بخناجر قسوتكم, فترد إليكم الإساءة, باقة ورد, عطفا ومحبة, والتزاما بما أمرها الله سبحانه وتعالي, الذي ملأ قلبها حبا وتسامحا وكأنها من أهل الجنة, لا من بني البشر.
كثيرون غيرك ـ من الرجال ـ عقولهم أشد تصلبا وانغلاقا من أهل الجاهلية الأولي, الذين كانوا يئدون البنات, ويرون فيهن ذلا وعارا, فيما كل الفخر بإنجاب الولد, ولم يلتفتوا أبدا, علي الرغم من مرور ما يقرب من1500 عام علي ظهور الإسلام إلي قوله سبحانه وتعالي: وإذا بشر أحدهم بالأنثي ظل وجهه مسودا وهو كظيم. يتواري من القوم من سوء ما بشر به, أيمسكه علي هون أم يدسه في التراب, ألا ساء ما يحكمون, صدق الله العظيم.
الأغرب هي زوجتك ـ رحمها الله وغفر لها ـ والتي كانت بنتا, تتبني نفس الفكرة الذكورية, ولا تري أمومتها إلا في ابنها, لتصبحا أنتما ظالمين, لا يرد أحدكما الآخر, فتماديتما في ظلمكما وجهلكما, فغضب الله عليكما وزاد في غيكما, لتجنيا الحنظل بعد أن زرعتما المر. وعلي الرغم من أن الشاعر العربي المؤمل الكوفي يقول:
ينشأ الصغير علي ما كان والده إن العروق عليها ينبت الشجر فإن الله سبحانه وتعالي قد اصطفي ابنتك ونجاها من الشرور التي زرعتموها في نفسها منذ الصغر, فنقي قلبها, وزادها ابتلاء برحيل الزوج الحنون والابنة العليلة, ليطهرها ويحفظ قلبها من اختزان الحقد والكراهية.
فهي صاحبة نفس كبيرة رائقة, فمثل هذه النفوس وحدها تعرف كيف تسامح, لأنها كالشجرة لاتحجب ظلها حتي عن الحطاب.
سيدي.. أجد نفسي مدفوعا للكتابة عن وإلي ابنتك, فأنت يكفي ما أنت فيه وما تعانيه, فلست في حاجة مني إلي تأكيد كم الجرائم التي ارتكبتها, ولا أعتقد أن هناك إنسانا عاقلا, يفعل ما تفعله, ويقرأ كلماتك, ولا يرتدع أو يعود إلي صوابه, فإن لم يفعل من تلقاء نفسه وعلي الفور, فلن تجدي معه أي كلمات أوجهها له.
دعني أذكر ابنك, العاصي, قاسي القلب, ضحيتك أنت ووالدته, بما أمرنا به الخالق عز وجل, من بر الوالدين وطاعتهما ومصاحبتهما في الدنيا معروفا, ومنعنا حتي أن نقول لهما أف, فإذا كان جرم الوالدين أنهما بالغا في حبك وتدليك, ومنحاك كرم العنب, فهذا لا يعني أبدا ألا تقدم لهما عنقودا واحدا.
ودعني أذكره بالحكاية القديمة ـ إذا كان لا يعرفها ـ والتي تحكي عن رجل ضاق بوالده الذي كان يقيم معه, وكانت زوجته تنهره, وترفض أن يتناول طعامه معهم علي المائدة, فأعد له أطباقا متواضعة, يضع له الطعام ويقدمه له في المطبخ, ففوجيء بطفله, يسارع بعد أن ينتهي جده من تناول طعامه, بغسل الأطباق ووضعها علي الرف. سأله الأب لماذا تفعل ذلك بأطباق جدك, فأجابه بأنه يحافظ عليها, حتي يقدم فيها الطعام لوالده عندما يكبر.
ليست حكاية أيها الابن العاصي, ولكنها الدنيا, وكما تدين تدان, ومن أعمالك يسلط عليك, فهل ترحم أباك في شيخوخته, حتي ترحم نفسك في شيخوختك, وتنجو من عذاب أليم.. أتمني.
أما الابنة الرائعة, فلن أقول لها شيئا, فهي المعلمة التي يجب أن نستمع إليها, وكلي ثقة ـ دون أي مناشدة ـ أنها ستسامح والدها لأنها تعرف جيدا وعد الله في كتابه العزيز.. وليعفوا وليصفحوا, ألا تحبون أن يغفر الله لكم.... مثل هذه الابنة تؤمن بفطرتها النقية بالحكمة القائلة: أحب أباك إذا كان منصفا, وإذا لم يكن كذلك, فتحمله.
زادك الله عزا بعفوك, وأنار دربك, وصبرك علي ما عانيته.. وإلي لقاء بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق