السبت، 6 نوفمبر 2010

دائرة اللهب من بريد الجمعة

لم أكن أتخيل يوما أن أكتب إليك‏,‏ لكن عندما تقرأ قصتي ستعرف أنني في حيرة من أمري‏,‏ وفي أشد الحاجة لمن يأخذ بيدي إلي الاتجاه الصحيح‏,‏ قبل أن أتفوه بكلمة واحدة أقسم بأن كل ما سوف أحكيه صدق وليس من وحي الخيال‏,‏ ولعلك تستعجب من هذا القسم المبكر‏,‏ لكن مع قراءة سطور هذه الرسالة سوف تعلم أنه كان لابد من هذا القسم حتي تستطيع أن تكمل الرسالة ولا تظن أنها من قبيل الخيال العلمي أو من خيال المؤلف‏,‏ وإن لم تصدقها فلك كل الحق‏,‏ فأنا أيضا لا أصدق وأشعر بأنني في كابوس‏.‏

بداية أنا شاب في أواخر العشرينيات من عمري‏,‏ أعمل في وظيفة مرموقة وأحسب نفسي من الذين تمت تربيتهم دينيا وخلقيا بطريقة جيدة‏.‏

في مقتبل عمري كانت لي بعض العلاقات العاطفية العابرة‏,‏ مثل أي شاب في فترة المراهقة‏,‏ لكنها مرت كلها بسلام والحمد لله‏,‏ ونسيت كل شيء والتفت إلي حياتي وعملي وانشغلت كليا عن فكرة الارتباط والزواج حتي كان هذا اليوم‏,‏ وهذه كانت بداية حكايتي‏.‏

في يوم عطلة شعرت بالملل ففتحت موقعا للدردشة علي النت لعلي أصادف من أتحدث معه أو معها‏,‏ دخلت وتحدثت مع بعض الأشخاص حتي صادفت فتاة أعجبتني صفاتها وعمرها مناسب‏,‏ في البداية تعاملت معها علي أنها معرفة سطحية لن تستمر أكثر من دقائق‏,‏ لكن الأمر تجاوز هذا الحد وتحول إلي انجذاب لا مثيل له‏,‏ وبدأت تطول أوقات حديثنا من خلال النت حتي تحول إلي إدمان‏,‏ وأصبحنا نقضي الليالي نتحدث‏.‏ أعجبني فيها‏,‏ حسب كلامها‏,‏ خلقها وعلمها وتمسكها بدينها‏,‏ وبدأت أفكر لأول مرة في الزواج‏,‏ وصارحتها مباشرة بالأمر‏,‏ وطلبت منها اللقاء كي نتفق فوعدتني باللقاء‏.‏

لكن قبل موعد اللقاء بقليل كانت تختفي ثم تظهر بعد فترة من جديد‏,‏ وعند السؤال تتعلل بأسباب قوية تمنعها فعلا من الاتصال بي كعملية جراحية مثلا‏,‏ ويتكرر الأمر كثيرا وتتوالي الحجج‏,‏ لكننا كنا نتحدث هاتفيا‏,‏ وفي كل مرة نتفق علي لقاء تخرج بحجة مقنعة جدا‏,‏ ويتوالي غيابها المفاجئ مما يؤجج نار الشوق بداخلي‏,‏ وفي كل مرة تلجمني بحججها‏,‏ مرة وفاة جدتها‏,‏ ثم وفاة والدها‏,‏ وكانت أمها قد توفيت منذ فترة‏,‏ ثم موت أختيها مع ابن خالتها في حادث‏,‏ ثم تعرضها هي لحادث سير‏,‏ وهكذا سلسلة من الحجج التي لا تنتهي استمرت ستة أشهر منذ بداية تعرفنا علي النت‏,‏ لكننا كنا نتحدث في الفترات التي لم تكن تختفي فيها كل يوم قرابة الإثنتي عشر ساعة‏,‏ ولا نمل من الكلام أبدا‏.‏

كانت تحكي لي الكثير عن نفسها ووالدها ووالدتها المتوفيين‏,‏ وعن أختيها اللتين توفيتا بالحادث‏,‏ وعن كل أقاربها‏,‏ لكن كنت تكثر من الحديث عن خطيبها السابق الذي أضر بها كثيرا‏,‏ وكانت تبكي كلما تذكرت ما فعله بها‏.‏

في هذه الفترة كنت أشعر أني أحبها بدرجة لم أكن أتخيل أنني سأصل إليها أبدا‏,‏ ولا أدري ماذا حدث لي‏,‏ أقسم لك أنني أحببتها ولم أتمن علي الله أمنية كما تمنيت أن يجمعني بهذه الفتاة‏.‏

كما كانت تقول لي من كلام الحب أشكالا وألوانا تئن لها قلوب العاشقين‏,‏ وهكذا مرت الأشهر دون أن نلتقي‏,‏ واختفت فجأة كالعادة‏,‏ لكن هذه المرة ليست ككل مرة‏,‏ ففي أوج مشاعرنا رجعت من عملي ليلا لأجد رسالة تقول فيها إنها لن تستطيع أن تكمل معي‏,‏ وإن أحد الذين كانت تعرفهم في الماضي تقدم لخطبتها وهي وافقت‏(‏ جوازة والسلام ـ علي حد قولها‏),‏ ولك أن تتخيل ما حدث لي‏,‏ وفعلت المستحيل حتي تحدثت إليها فاعتذرت لي بأنها في مشكلات وأنها اضطرت لذلك وأنها تحبني جدا و‏..‏ و‏..‏ وهي الآن لي وحدي‏

لكنها اختفت من جديد لمدة ثلاثة أسابيع وكدت أجن وخفت كثيرا من أن يكون حدث لها مكروه‏,‏ وبعد محاولات كثيرة مستميتة توصلت إليها وكانت حجتها أنها أجرت عملية جراحية كبيرة جدا‏,‏ وأنها لم تخرج من المستشفي سوي من يومين فقط‏,‏ وكانت تنوي أن تتصل بي في أقرب فرصة بعد أن تقل الزيارات من بيتها‏,‏ وطبعا صدقت ككل مرة واستأنفنا علاقتنا وحجج عدم اللقاء لا تنتهي أبدا‏,‏ وأنا أنتظر هذا اللقاء علي أحر من الجمر كي أراها ولو مرة لنتفق قبل أن ألتقي بأسرتها‏,‏ أخيرا كان اللقاء بعد أن عرفتها لشهور طويلة‏,‏ كان لقاء‏!!‏ لا أستطيع أن أصفه‏,‏ أغرب ما فيه هو استعجالها العودة إلي البيت الذي من المفترض أنه خال‏,‏ فما الداعي للعجلة؟‏!‏ كما استوقفتني ملابسها التي تخيلت أنها أفضل من ذلك‏(‏ نعم كانت ترتدي حجابا ولكن‏!!!),‏ وتوالت اللقاءات والأحاديث‏,‏ وتطورت العلاقة وأنا ألح عليها في مقابلة أسرتها‏.‏

وخلال أحاديثنا ومقابلاتنا كانت تحدثني عن كم هائل من الأحداث المتشابكة‏,‏ وأشخاص يقومون بدور في حياتها‏,‏ وفجأة ظهر طفل عمره نحو‏5‏ أشهر‏,‏ نسبته لبنت خالتها التي أنجبته ولأنها مريضة أوكلت إليها مسئوليته بشكل مؤقت لأنها الوحيدة في العائلة التي لم تتزوج بعد‏,‏ ولا يوجد ما يشغلها‏.‏

وكثيرا ما حدثتني عن خلافات والدي الطفل‏,‏ والكثير من الأحداث التي لا تنتهي‏.‏

وأصبح هذا الطفل وبالا علينا‏,‏ وتنغيصا لحياتنا‏,‏ فأصبحت مكالماتنا قليلة‏,‏ ولقاءاتنا أقل‏,‏ خصوصا أنها كانت تتحجج بوجود أخيها‏,‏ وكنا لا نلتقي إلا بعد سفره حيث إنه يعمل خارج البلاد‏,‏ وكنت كلما فاتحتها في موضوع الزواج تتحجج بآلاف الحجج‏,‏ منها أنه لم يمر الوقت الكافي علي وفاة والدها وأختيها‏,‏ أو أن أخاها يعاني مشكلات ولن تستطيع الكلام معه في الوقت الحالي‏,‏ وادعت أن أخا زوجة أخيها يرغب في الزواج منها إلي آخر الحجج والحكايات التي لا تنتهي‏,‏ وأنا صابر علي أمل أن ينتهي كل هذا‏,‏ وبدأت المشكلات وتوالت وكثرت‏,‏ وكلها كانت بسبب أشياء تفعلها معي‏,‏ وعند المناقشة لا تسمع غير نفسها وعقلها فقط‏.‏

ويعلم الله أنني ما تمنيت أحدا غيرها‏,‏ لكنها كانت تتعمد المشكلات معي‏,‏ وإذا تناقشت معها تحتد علي وتهددني بالابتعاد‏,‏ كنت أشعر في كثير من الأحيان أن هناك سرا ما‏,‏ لكنني فضلت السكوت والشك يملأني خشية أن أفقدها‏.‏

وبدأت أتعامل معها علي أنها مريضة نفسية بسبب ما حدث لها من خطيبها السابق‏,‏ وأنه بمرور الوقت وبعد الزواج ستنسي‏.‏

نعم كانت مشكلاتنا طفيفة وسطحية‏,‏ لكنها كانت كثيرة‏,‏ لكننا كنا نتغلب عليها‏,‏ ومرت الحياة هكذا وتعمقت طبيعة العلاقة وتأصلت كثيرا‏,‏ ومر عام كامل علي بداية علاقتنا‏,‏ ثم يريد الله أن تكون هذه هي اللحظات الحاسمة‏,‏ وبدون الخوض في تفاصيل مؤلمة اكتشفت حقائق مثيرة‏.‏

لكن عندما اتصلت بها أنكرت وزيفت كل الحقائق‏,‏ الحقائق التي أقسمت عليها في أول حديثي ولن يصدقها عقل أبدا‏.‏

هذه الفتاة هي أم ذلك الطفل‏,‏ والشخص الذي تدعي أنه أخوها هو زوجها‏,‏ ولا وجود لشخصيتها الخيالية‏,‏ ولا حقيقة في كلمة واحدة مما قالته‏,‏ فلم يمت والدها ولا والدتها‏,‏ وليس لها أختان أصلا كي تموتا في حادث‏,‏ فليس لديها سوي أخ‏,‏ ولم يحدث لها أي حوادث‏,‏ ولم تقم بأي عمليات جراحية‏,‏ والفترة التي غابت فيها طويلا‏(‏ نحو ثلاثة أسابيع‏)‏ كانت الفترة التي انجبت فيها طفلها‏,‏ والفترات التي كانت تختفي فيها هي فترات وجود زوجها في البيت‏.‏

وكل ما حدثتني به عن أقاربها وعن نفسها وعن عائلتها وكل شيء‏,‏ كل شيء كان كذبا خالصا‏.‏

في بداية الأمر فكرت أنها ربما شعرت تجاهي بأحاسيس قوية‏,‏ وهذا وارد أن يحدث حتي من امرأة متزوجة‏,‏ وإن كان خطأ‏,‏ لكنني اكتشفت أنها كانت علي علاقة بالكثيرين غيري‏,‏ وكانت تفعل معهم مثلما تفعل معي الضبط‏,‏ كل هذا وزوجها مخدوع وبعض أقربائها يعرفون‏..‏ كل هذا ولم يؤنبها ضميرها في يوم‏,‏ ومازالت تتحجج وتتعلل وتكذب دون أن تطرف لها عين‏.‏

لن أقول لك ما بداخلي‏,‏ ولن أحكي لك عما أشعر به‏,‏ لأني لو ملأت صفحات العالم ما انتهيت من كتابة أول حرف من أوجاعي‏.‏

لكن الغريب في الأمر كله أنني مازلت أحبها ولم أستطع أن أكرهها‏.‏

لا أنام الليل إلا بأدوية منومة‏,‏ ولا أمارس عملي إلا بأدوية مضادة للاكتئاب دمرت حياتي كلها‏,‏ وأكثر ما يؤلمني هي التفاصيل التي لا أستطيع البوح بها‏!‏ لكنني أبدا لن أفضحها‏,‏ فمازلت متيما بها‏!‏




رد الكاتب :

*‏ سيدي‏...‏ كان يمكنني عدم الاهتمام برسالتك‏,‏ وعدم إفساح كل هذه المساحة لها‏,‏ مكتفيا برد خاص‏,‏ لأن حكايتك تشبه حكايات المراهقين الذين يطاردون سرابا ليشبعوا أحلامهم وتخيلاتهم الساذجة عن الحب‏,‏ فتجرفهم المشاعر الصغيرة غير الناضجة‏,‏ معتقدين أن الحياة لن تستمر‏,‏ إلا مع هذا الحبيب‏,‏ ويصفون حبهم بأنه غير مسبوق ولم يحدث مثله أبدا‏.‏

مشاعر المراهقين وتصوراتهم القاصرة عن الحب‏,‏ مفهومة ومقبولة‏,‏ ولكن المستغرب أن يعيش هذه المشاعر رجل في نهاية العشرينيات ويعمل في وظيفة مرموقة‏,‏ ويتحدث عن خلقه وتربيته الرفيعة‏.‏

هذا المفهوم المغلوط والمشوش عن التربية الدينية والأخلاق الحميدة‏,‏ بأن يبيح شاب مثلك لنفسه ان يدخل الي الشات يبحث عن رجل أو امرأة وهو يعرف أن الأسماء وهمية‏,‏ والحكايات أغلبها كاذب وليس لها هدف إلا العبث والتسلية‏,‏ ثم يشعر من أول تواصل أنه منجذب ومحب‏,‏ وخلال أيام تصبح المكالمات بالساعات كل ليلة‏,‏ ويعجبه بعد ذلك خلقها وتمسكها بدينها‏...‏

فماذا كنت تتصور أو تقبل بأن تفعله فتاة ليست علي خلق أو غير متمسكة بدينها؟‏..‏ أي فتاة تلك التي تتعرف علي شاب لاتعرفه‏,‏ ولا تعرف عائلته أو خلقه‏,‏ ولا إذا كان صادقا أو كاذبا فيما يقول‏,‏ ثم تري انها علي خلق ودين؟‏!‏

إن هذه المفاهيم الجديدة عن التدين والأخلاق‏,‏ والتي يتبناها من هم مثلك ومثل تلك المرأة‏,‏ هي التي تهز القيمة الحقيقية للأخلاق والتدين عند الفتيات الملتزمات‏,‏ فيشعرن بأنهن علي خطأ‏,‏ بعد أن أصبح الخطأ هو القاعدة‏,‏ والصواب هو الاستثناء المشكوك فيه‏.‏

قصتك ـ ياسيدي ـ ليست خيالا علميا‏,‏ ولكنها خيال عيالي‏,‏ لا يتناسب مع وظيفتك ولا عمرك‏..‏ خيال دفعك للدخول في قصة وهمية كانت نهايتها سيئة ومحبطة‏,‏ ولا يمكن توقع نجاح مثل هذه العلاقات القائمة علي الكذب والخداع‏..‏ الحب يحتاج إلي بيئة طبيعية محترمة‏,‏ يتعارف فيه الطرفان وجها لوجه‏,‏ يتآلفان‏,‏ يتفاهمان‏,‏ تتوافر لهما ولأسرتيهما فرص التعارف والتكافؤ‏,‏ بعدها يمكن للحب أن ينمو بصورة صحية قادرة علي الاستمرار‏.‏

سيدي‏..‏ لا أريد أن أخوض في تفاصيل رسالتك‏,‏ لأنها لا تهم أحدا‏,‏ لقد أخطأت وعليك تحمل النتيجة والتعلم مما وقعت فيه‏,‏ وعليك ان تحذر‏,‏ فقد حمت هذه المرة حول دائرة اللهب مستمتعا بدفئه وانت بدون ان تدري تنتهك عرض رجل آخر‏,‏ فإذا لم تكن احترقت هذه المرة‏,‏ فإن النار في انتظار المغامرين والمندفعين والغافلين مثلك ومثل تلك الزوجة التي سمحت لنفسها بهذا العبث‏

وهي تحمل في أحشائها جنينا‏,‏ غاب عنه أبوه مضطرا ليوفر له ولأمه حياة كريمة‏,‏ وبدلا من أن تحفظه وتقدر له معاناته‏,‏ استغلت ثقته فيها‏,‏ وخانته بما وفره لها‏,‏ عبر جهاز الكمبيوتر لتلهو وتكذب وتخدع بدون ان يهتز لها جفن‏,‏ فإذا كان الله حليما ستارا هذه المرة‏,‏ فلا تدري كيف سيكون احتراقها في دائرة اللهب في المرة القادمة‏.‏

ادعو لك الله باستعادة نفسك والاعتراف بخطئك‏,‏ ولها بأن يلهمها الصواب‏,‏ وتكفر عن أخطائها بالتقرب أكثر إلي زوجها والاخلاص في محبته ورعاية إبنها‏,‏ والابتعاد عن هذا الجهاز الملعون‏,‏ فهو لم يخترع لهذا أبدا‏..‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.‏


****************************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق