الخميس، 14 أكتوبر 2010

من بريد الجمعة حفل الزفاف

انا يا سيدي شاب عشت تجربة فريدة وأود ان اضعها امام قراءك ليستفيدوا منها مثلما استفيد انا من تجارب الاخرين . فقد نشأت من اسرة ميسورة الحال .. ووالدي ضابط شرطة وصل الى اعلى رتبها .. وهو ابن ( باشا ) سابق اما والدتي فسيدة مجتمعات مثقفة جدا . ولي شقيقة وشقيق يشغلان الان وظيفتين محترمتين .. وانا الابن الاكبر لأبوي .. وقد نشأنا جميعا فى جو أرستقراطي يهتم كثيرا بالشكليات والتقاليد وكل شئ فيه بمواعيد ونظام .. وصداقاتنا العائلية كلها من نفس المستوى .ولأسباب لا اعرفها حتى الان وجدت نفسي لا اميل كثيرا الى هذه الحياة .. ولا اجد نفسي فى صداقات الشبان والفتيات من وسطنا الاجتماعى .. فأتجهت صداقاتي كلها للشبان البسطاء والمكافحين مما جعلني موضع نقد من افراد اسرتي اللذين اتهموني بأنى لا احافظ على مستواى الاجتماعى !ولأن ابي قد ورث عن ابيه ميراثا ضخما فلقد كنا نعيش حياة مترفة وعندما التحقت بكلية الطب كانت لي سيارة بويك كبيرة اذهب بها الى الكلية وكثيرا ما رجوت ابي ان يستبدلها لى بسيارة صغيرة لكيلا اشعر بالحرج من زملائي واساتذتي فكان يرفض بأصرار وكنت اتعمد تركها بعيدا نسبيا عن مبنى الكلية ..وأثناء دراستي بالكلية ارتبطت عاطفيا بأحدى زميلاتي شدتنى اليها ببساطتها ولمست فى اعماقها حنان الدنيا فضلا عن جمالها وذكائها وكانت متفوقة وكنت ايضا متفوقا وتعاهدنا على الارتباط الابدي بأذن الله وجاء يوم التخرج ونجحنا نحن الاثنين بتقدير عال .. وجاءت اللحظة التى ينبغي ان احول فيها حلمنا الى حقيقة وفاتحت اسرتي برغبتي فى خطبتها ودعوتها لزيارتنا فجاءت وراها ابي وامى واخوتى وأعجبوا جميعا بجمالها وهدوئها وذوقها فى اختيار ملابسها ..وبعد الزيارة سألنى ابى عن مهنة أبيها وما ان اجبته حتى انفجرت براكين الغضب فى اعماقه وهب واقفا يحطم بيديه الاكواب التى امامه ويعلن بكل اصرار ان هذا الزواج لن يتم ابدا .. فهل تدري لماذا ؟ لأن والد حبيبتى .. حلاق .... نعم حلاق وأقولها بكل فخر وأعتزاز لانه رجل شريف كافح أدى واجبه تجاه أسرته وحقق مالك يحققه بعض ( الباشوات ) فأهدى الى الحياة ثلاثة اطباء ومهندسا معماريا وضابطا رغم انه لم ينل حظا كافيا من التعليم .وانحازت امى الى جانب ابى وانحاز معهما شقيقي وشقيقتي . ووجدت نفسي وحدي اتساءل ما ذنبي انا وفتاتي فى ان يحرم كل منا من الاخر .. وانا الذي لم اعرف للدنيا معنى الا بعد ان احببتها ؟ وقررت ان ادافع عن حبي وحياتي وتوجهت الى بيت حبيبتى وقابلت اباها .. واعطيته صورة صادقة عن الموقف ففوجئت به بعد ان عرف بمعارضة اسرتي يرفض هو ايضا زواجى من ابنته ويقسم انه لن يسمح بذلك ابدا لانه لا يرضى لنفسه ولا لأسرته ان يقال عنهم انهم قد ( ضحكوا علي ) وخطفوني من اسرتي ، وحين رأي تمسك ابنته بي اعلن بكل وضوح انه سيتبرأ منها لو تزوجتنى على غير ارادتهوارادة اسرتي .ووجدنا نفسينا حائرين .. اسرتي ترفض بسبب نظرة اجتماعية بالية .. واسرة حبيبتى ترفض دفاعا عن كرامتها .وقررت بعد تفكير طويل ان اضح حدا لهذا العذاب فأصطحبت فتاتي ذات يوم ومعي صديقان الى مكتب المأذون واخرجنا بطاقتينا وطلبنا منه عقد زواجنا .. وحين قال لي قل يا سيدي : قبلت زواجك على سنة الله ورسوله وعلى الصداق المسمة بيننا وعلى مذهب الامام ابي حنيفة النعمان رضى الله عنه .. انهمرت دموعي ودموعها ودموع صديقيَّ .. وخرجنا من مكتبه زوجين امام الله والناس لنواجه قدرنا وحدنا بلا سند الا الله سبحانه وتعالى ، ولم تتأخر المتاعب طويلا فما ان علم ابي بما حدث حتى طردني من البيت وسحب مني السيارة فخرجت من البيت احمل حقيبة ملابسي الصغيرة وفى جيبي سبعة جنيهات هيا كل ما تبقى من اجر المأذون ، وما ان علم ابوها بما جرى حتى طردها هيا ايضا فخرجت من البيت ومعها حقيبة ملابس صغيرة واربعة جنيهات ، ووجدنا نفسينا فى الشارع بلا مأوى .. وكنا فى شهر فبراير ولم يبقى سوى شهر على تسلم عملنا كطبيبي امتياز حيث سيتقاضى كل منا اربعين جنيها ، وكانت ليلة طردنا ليلة شديدة البرودة .. فجلسنا فى محل نحتمى داخله من الصقيع ونفكر فيما سنفعل .. وكلما مرت ساعة ولم نجد مأوى ازداد خوفنا .. حتى جاء الفرج ونجحت فى الاتصال بأحد اصدقائي وأقترضت منه 50 جنيها وذهبنا الى احدى اللوكاندات الشعبية الرخيصة .. وحين احتوتنا الغرفة المتواضعة لأول مرة .. كان كل منا يعرف فى اعماقه ان امامنا اياما صعبة لي يخفف منها سوى عطف كل منا على الاخر وحمايته له .. وعشنا فى هذه اللوكاندة فترة تسلمنا خلالها العمل فى المستشفى ، ثم وفق الله احد اصدقائي فى ان يجد لنا شقة من حجرتين على الطوب الاحمر فى بيت صغير فى زقاق ضيق بأحد الاحياء الشعبية ، وكانت هدية من السماء لأن صاحبها كان فى حاجة الى نقود فقبل تأجيرها لنا بلا مقدم ولا خلو بخمسة وعشرين جنيها ، وفرحنا بها فرحة كبرى وأسرعنا ننتقل اليها .. وأشترينا اول اثاث عرفناه لبيتنا وكان مرتبة من الاسفنج ووسادتين ومكتبا خشبيا صغيرا وكرسيين ووابور جاز .. وبرادا وكوبين وحلتين فقط لا غير !وفى هذا العش الهادئ عشنا حياتنا سعداء بوجودنا معا لا يزعجنا فيه شئ سوى كثرة الفئران والحشرات وكانت زوجتي قوية الارادة مدبرة فكان مبلغ 55 جنيها التى تتبقى لنا بعد دفع الايجار تكفينا طوال الشهر للأكل والمواصلات ولكن بلا اى ترفيه او شراء ملابس ، واحبنا جيراننا البسطاء .. واحببناهم وكانوا يشفقون علينا من شظف حياتنا ويتعجبون من سوء حالنا ونحن طبيبان حتى قال لي احدهم مرة بتلقائية غريبة ( كنا فاكرين ان الدكاترة كلهم اغنياء لكن ياما فى الحبس مظاليم )وخففت عنا صداقاتهم بعض صعوبة الحياة فكانت جاراتنا يعرضن خدماتهن على زوجتي بشهامة صادقة فتطلب منها جارة مثلا ملابسنا لكي تغسلها مع غسيلها لاننا طبيبان مشغولان بالعمل .. وتتطوع اخرى بشراء حاجيات البيت لها .. وتصر ثالثة على ان تشاركها تنظيف الشقة بهمة ، وانا اتذكر هذه الاشياء البسيطة الان .. لانى كثيرا ما وجدت فيها تعويضا لنا عن جفاء اهلنا وقسوتهم علينا فى هذه الايام الصعبة رغم علمهم بكل ظروفنا ، ففى مقابل هذا العطف من الجيران البسطاء .. لم يحاول احد من اهلنا زيارتنا او السؤال علينا .. بل ولم يتركونا ايضا فى حالنا ففوجئت فى احدى الليالي وانا وزوجتى نائمين بعد يوم شاق فى العمل بأربعة وحوش يقتحمون شقتنا ، ويحطمون المكتب والكرسيين ويمزقون المرتبة الوحيدة التى ننام عليها وكتبنا واوراقنا ويسبونا بأفظع الشتائم .. بحجة انهم يفتشون الشقة ! ثم خرجوا ورئيسهم يهددني قائلا : أنتم لسه شفتوا حاجة .. عشان تبقى تتحدى الباشا ! يقصد ابى الذي كان قد ترقى وقتها لرتبة اللواء !وخرج الرجال الاربعة .. وانحنينا نحن نلملم الاسفنج الذيتفزز من بطن المرتبة ونعيد حشوها ونخيطها .. ونجمع كتبنا الممزقة .. ونحاول اصلاح المكتب والكرسيين .. ثم غلبنا التعب فنمنا على المرتبة وقد امسك كل منا بالاخر بقوة كأنه يحتمى به مما تخفيه له الايام .. وبالفعل فقد انتابنى الاحساس بأن ابي لم يدعنا فى حالنا .. وتحققت مخاوفي حين ابلغني صديق لي بأن ابى يدبر ان يلفق لزوجتي قضية اداب ! ان هذا ما حدث والله العظيم ولم يرج ابى عن نيته الا بعد ان اقسم له صديقي بأنه سيقنعني بتطليقها راجيا منه الا يفعل ذلك لكيلا ( اعاند ) واتمسك بها اكتر لو حدث لها مكروه ، واصبحت مهمة صديقي هى ان يزوره كل عدة ايام ليطلب منه الصبر .. حتى ينجح فى اقناعى بالطلاق وذلك بهدف اضاعة الوقت لعله يهدأ وينسانى قليلا ، وخلال ذلك جاءت فترة التجنيد وامضيت عاما لا اتقاضى فيه سوى 6 جنيهات كل شهر وكنت اعمل لهذه الفترة الف حساب لكن الله لم ينسنا فوجدت زوجتي عملا فى مستوصف قريب من البيت واصبحت هي التى تتولى الانفاق على الاسرة ..وانتهت فترة التجنيد وخرجت من الجيش لاجد زوجتي مصممة على تسجيل الماجستير لى ولها فظننت ان عقلها قد اصابه الجنون ! فقد كنت انتظر بفارغ الصبر انتهاء فترة التجنيد لكى نبحث عن عمل فى الخارج ونهرب بعيدا عن قسوة الاهلا وتربصهم بنا ، لكنها صممت وقالت لي اننا متفوقان وقد صمدنا للضيق والشدة والمضايقات فلماذا لا نكمل مشوارنا العلمى ثم نحقق بعد ذلك احلامنا .واستجبت لاقتراحها مرغما ومعجبا بها وبقوة ارادتها فى نفس الوقت وسجلت انا وهيا للماجستير .. وبدلا من ان نستريح بعد كل ما لقيناه .. بدأنا نستعد لفترة اخرى اشد قسوة ومرارة .. لان الماجستير يحتاج الى تكاليف والى كتب والى عناء كثير ..وبدأنا نذاكر للماجستير .. وقاسينا من الضيق والحاجة اشد مما قاسيناه فى بداية زواجنا .. ويكفي ان اقول لك ان طعامنا خلال الشهرين الاخيرين من الدراسة كان لا يتجاوز الخبز والدقة والملح والماء تقريبا ، واننا كثيرا ما ققاسينا الجوع فى ليالي المذاكرة الطويلة .. ولم نكن نجد ما نسكته به سوى الماء ، ومازلت اذكر حتى الان انى اسرفت ذات ليلة فى شرب الماء لكي اتقي الجوع فانقلبت معدتي وتقيأت وشعرت بالجوع اكتر واكثر ولم نجد بدا من التضحية ببضعة قروش فخرجت فى الليل ابحث عن شئ يؤكل ..ورغم ذلك كنا سعداء .. ولم نشك يوما .. ولم نندم ولم ار زوجتي مرة باكية .. او حزينة .. او غاضبة لاى سبب من الاسباب .. بل كنت كلما رفعت رأسي عن الكتاب .. متململا وجدتها تنظر لي بعينيها الجميلتين والابتسامة الحبيبة تغطي وجهها .. فأبتسم لها ثم احنى رأسي مرة اخرى على الكتاب .. وقد زال ضيقي !وكلل الله جهودنا بالنجاح فحصلنا على الماجستير فى زمن قياسي خلال عامين فقط .. لكن ازمتنا لم تنفرج بل عشنا عاما اخر بعد الماجستير نعانى من شظف العيش وننام فوق المرتبة وليس فى حياتنا أيه نسمة راحة حتى وفقنى الله بعد جهد جهيد فى الحصول على عقد عمل لي ولزوجتي فى احدى الدول العربية ولأول مرة بعد 5 سنوات من العناء عرفت حياتنا اول لحظة راحة .. فعشنا فى شقة جميلة وعرفنا النوم على الفراش .. وعرفنا التليفزيون بعد ان كنا نسيناه .. وعرفنا الطعام الجيد بعد ان كنا قد ودعناه منذ 5 سنوات وخلال عامين كنا قد تمكنا من شراء شقة تمليك فى احد احياء القاهرة وأثثناها .. واشتاقت نفسي للعودة الى بلدي بعد ان وجدنا لأنفسنا فيها مأوي كريما ، لكن حبيبتى ( المجنونة ) خرجت علي مرة اخرى بطموح جديد هو ان نحصل على زمالة كلية الجراحين الملكية بلندن .. وبنفس المنطق : نحن متفوقان .. وقد مضت ايام الشدة ولدينا الان النقود التى تسمح لنا بالانفاق على الزمالة .. الخ .. وبأختصار فقد حصلنا على الزمالة من لندن بتوفيق من الله .. وبجدنا واجتهادنا وبعد الحصول عليها تعاقدنا للعمل فى دولة اخرى بمرتبين خياليين وتقدمنا فى عملنا فأصبحت مديرا فنيا للمستشفى التى اعمل به واصبحت زوجتي مديرة للقطاع الطبي بالشركة التى تعمل بها .. ورزقنا الله بطفلة جميلة لم اتردد فى ان اسميها باسم شريكة كفاحي وشقائي وسعادتي أى باسم زوجتي ..وبعد 3 سنوات من الغربة .. عدنا الى القاهرة فى اجازة .. وفى داخلي تصميم على شئ لم اصارح به زوجتي الا بعد وصولنا لمصر بأسبوع .. هو ان نحتفل بزفافنا الذي لم نحتفل به يوم تزوجنا منذ 8 سنوات لأن من حق حبيبتى ان ترتدي ثوب الزفاف الابيض الذي لم ترتديه وأن ارتدي انا أيضا بدلة الفرح التى لم يكن لي مثلها حين تزوجت .. وصممت ونفذب وتحديت الجميع وأقمت حفل الزفاف فى نادى الشرطة ! ودعوت كل اصدقائي الذين وقفوا الى جوارنا فى وقت الشدة .. وتصدر الحفل جيرانى البسطاء فى شقة الطوب الاحمر فرحين مندهشين ودخلت القاعة مع زوجتي بثوب الزفاف وامامنا المشاعل .. والشموع وفرقة الزفة .. وطفلتي تجري بين اقدام المدعوين وتضحك سعيدة وهى لا تدري انه حفل زفاف أبويها ! ونمت ليلتها قرير العين شاكرا لربي نعمته التى انعمها عليّ ..اننى اكتب اليك الان لانى سعيد وراض عن كفاحي لأقول لكل انسان ان الصبر والكفاح يحققان للانسان ما يريده لنفسه وان على كل انسان ألا ييأس من رحمة الله لأن لكل شدة نهاية ولكل ضيق اخر وعلينا فقط ان نؤدي واجبنا تجاه انفسنا ثم نسلم الامر للخالق جل شأنه ليختار لنا ما يشاء . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق