الأحد، 17 أكتوبر 2010

دموع السعادة من بريد الجمعة

أكتب إليك لأروي لك قصتي وأطلب منك المساعدة‏,‏ فأنا شاب في الحادية والثلاثين من عمري‏..‏ نشأت في أسرة من الأسر التي تكافح في الحياة للحفاظ علي مظهرها‏..‏ ولا تستند في حياتها إلا إلي دخلها من العمل الشريف‏..‏ فأبي موظف كبير لكن مرتبه يضعه في فئة محدودي الدخل‏,‏ ويده النظيفة تحجب عنه موارد الرزق الحرام والحمد لله‏,‏ وأمي موظفة كبيرة أيضا وتنفق مرتبها كله علي أسرتها‏..‏ وتدبر شئون العائلة والأبناء بجمعيات الادخار والاقتراض أحيانا‏..‏ كما أنها أسرة تعرف ربها حق المعرفة والحمد لله فكل أفرادها من أصغرهم وهو أخي إلي أكبرهم وهو أبي كلهم صوامون قوامون مصلون‏..,‏ وأسعد أوقاتنا حين يؤمنا أبي في الصلاة‏..‏ وحين نحتفل بالمناسبات الدينية‏,‏ وخاصة المولد النبوي الشريف‏.‏

ولقد مضت بنا الحياة هادئة في معظم احوالها وأبي وأمي يرعياننا ويقدمان لنا مثلا أعلي في المودة والرحمة التي تجمع بينهما‏..‏ وقد تعاملا معنا منذ الصغر بالحكمة والصبر والحب‏,‏ فلم نسبب لهما حتي في فترة المراهقة العصيبة المشاكل المألوفة‏,‏ وواصلنا تعليمنا بنجاح حتي تخرجت في كلية التجارة والتحق أخي بكلية الشرطة‏,‏ وبدأت رحلة البحث عن عمل‏..‏ ولم يستطع أبي ايجاد وظيفة لي ورحت أتابع اعلانات الوظائف الخالية وأقدم أوراقي لجهات عديدة دون جدوي‏,‏ ثم عملت عملا مؤقتا لمدة شهور بإحدي المدارس‏,‏ وفي شركة أخري كمندوب مبيعات‏,‏ وأخيرا وجدت فرصة عمل مستقر نسبيا في شركة خاصة وكان راتبي ثلاثمائة جنيه فرحت بها حين قبضتها لأول مرة فرحا طاغيا واشتريت لنفسي بنطلونا وقميصا ولأخي مثلهما‏,‏ وحاولت اعطاء أمي مائة جنيه كمساهمة في مصروف البيت فرفضت وطلبت مني ادخارها لزواجي بعد سنوات‏,‏ وبالفعل بدأت أدخر من راتبي هذا جزءا كل شهر لكي أكون مستعدا حين التقي بفتاة أحلامي‏,‏ ولم يطل الوقت بي فقد وجدتني مشدودا إلي زميلة لي في العمل عينت حديثا‏,‏ ولاحظت عليها هدوءها وسماحتها وأدبها كما لاحظت عليها أيضا أناقتها وجمالها الهاديء‏..‏ ويوما بعد يوم

تعمقت الصداقة بيننا وعرفت أن والدها لواء سابق بالقوات المسلحة ومن أسرة كبيرة ويملك أرضا زراعية فترددت في مفاتحتها بحبي لها‏,‏ وقدرت أنها قد لا تقبل بالارتباط بشاب مثلي لايملك إلا شبابه وحبه وبضع مئات من الجنيهات‏..‏ فتراجعت وكتمت مشاعري تجاهها‏..‏ بل وبدأت أيضا أتجنب الالتقاء بها‏..‏ وفوجئت بها في أحد الأيام تطلب مني أن أنتظرها بعد انتهاء العمل لأنها تريد أن تتحدث معي في أمر مهم‏..‏ وجاءتني بعد انتهاء العمل وخرجنا نمشي في طريق العودة إلي بيتها فسألتني عن أسباب ابتعادي عنها وعما إذا كانت قد أغضبتني في شيء أو سمعت عنها شيئا يسيء إلي أخلاقياتها‏,‏ فقلت لها إنني لم أسمع عنها إلا كل ما يزيدني احتراما لها‏,‏ لكنه رحم الله امرءا عرف قدر نفسه‏.‏ وسألتني عما أعنيه بذلك فانهرت واعترفت لها بأنني أتعذب بحبها في صمت منذ أكثر من عام‏..‏ ولكني بعد أن عرفت ظروف أسرتها أدركت أنه لا أمل لي فيها فكتمت مشاعري وابتعدت فصارحتني بحبها لي ورغبتها في الارتباط بي‏,‏ وطلبت مني ألا أبخس نفسي قدرها‏,‏ فأنا ـ كما قالت ـ من أسرة تشرف أية أسرة تصاهرها ولسوف تطلب مني في الوقت المناسب وبعد أن تكون قد مهدت لي الطريق‏,‏ أن أتقدم لأبيها‏..‏ وطرت فرحا بذلك وأوصلتها إلي


بيتها ورجعت إلي بيتي وفاتحت أبي وأمي في الموضوع ورويت لهما كل شيء فباركا رغبتي ووعداني بمساعدتي بكل مايستطيعان المساعدة به‏.‏
ومهدت لي فتاتي الطريق لدي أسرتها وفي الموعد المحدد اصطحبت أبي وأمي وأخي وقد أرتدوا أفضل ثيابهم وتوجهنا إلي بيت الأسرة‏,‏ فإذا به شقة واسعة من‏6‏ غرف في عمارة فاخرة‏..‏ والشقة تفوح منها رائحة العز والعراقة‏..‏ واستقبلنا الأب ورحب بنا بغير حرارة وراح يتفحصني بعمق ثم بدأ الحديث فسأل عن راتبي ودخلي وهل لدي شقة ملائمة أم لا‏,‏ وأجبته بصراحة عن كل شيء وقلت له أنني أبذل جهدي للحصول علي شقة في التعاونيات‏,‏ بأحد أطراف المدينة فلم يبد عليه الحماس لما قلت‏,‏ وانتهت الجلسة بغير قبول صريح منه ولا رفض‏,‏ وانصرفنا عائدين وأنا أشعر بالهم يتسلل إلي نفسي‏,‏ وكتم أبي مشاعره فلم يتكلم أمامي‏,‏ لكن نظراته الحزينة كشفت عما يشعر به‏.‏


وتراضينا علي ذلك وواصلنا حياتنا ومضي عام طويل بغير أن تلوح لنا بارقة أمل‏..‏ بل لقد تجهمت السماء أكثر فشكت لي فتاتي من ضغط أبيها عليها لقبول خطبة عريس من أسرة ثرية تربطها بأسرتها صلة المصاهرة فشعرت باليأس ونصحتها بالقبول صادقا‏,‏ لكنها لم تأبه لي ثم ازداد الموقف تعقيدا حين بدأنا نسمع عن تعثر الشركة التي نعمل بها واتجاهها إلي التصفية أو تقليص عدد العاملين بها‏,‏ وترقبنا مصيرنا في وجل فلم يتأخر عنا القدر وتم الاستغناء عن خدمات كل من عملوا بالشركة خلال الأعوام الأخيرة مع تعويضهم بمكافأة بسيطة وكانوا ستة أنا من بينهم‏,‏ ونجت فتاتي من الفصل بالطبع مراعاة لوالدها‏..‏ وألححت عليها من جديد في قبول الآخر ونسياني بعد أن ادلهمت الظروف علي هذا النحو وصرت عاطلا‏..‏ فنهرتني باكية ورحت أبحث عن عمل آخر‏..‏ والتقي كل بضعة أيام بفتاتي في مقهي حديث اخترناه لموقعه الهاديء واعتدال أسعاره وقربه من بيتي‏.‏ وكلما التقينا تبادلنا الأخبار ونسجنا الأحلام وتعلقنا بالأمل في تحسن الأحوال‏..‏ ومضي عامان تنقلت خلالهما بين أكثر من عمل مؤقت ولم تنجح فتاتي في إقناع والدها‏..‏ واقترحت هي علي ذات يوم أن نعقد قراننا ونؤجل الزفاف إلي حين الحصول علي موافقته لكني كرهت لها أن تخرج عن طاعة والدها‏,‏ وتحملت غضبها مني وخصامها لي أسبوعا طويلا نتيجة لذلك‏,‏ وأخيرا تمكن أبي من إيجاد وظيفة لي في جهة تابعة لعمله بعد‏6‏ سنوات من تخرجي‏,‏ وكان أخي قد تخرج في كلية الشرطة وذهب للعمل في أقصي الصعيد‏,‏ ولم يكتف أبي بذلك‏;‏ وإنما استبدل أيضا جزءا من معاشه ودفع لي مقدم ثمن شقة تعاونية بسيطة في أحد أطراف المدينة وشكرته علي ذلك كثيرا وقبلت يده وقلت له إنه قد أدي رسالته معي علي خير وجه وبأكثر مما هو مطلوب منه‏..‏ وتعمدت أن أقول له ذلك لأنني كنت أشعر بحزنه من أجلي واحساسه بعجزه عن اسعادي وتوفير سكن لائق وعمل مناسب لي‏..,‏ فأنبسطت أساريره ودمعت عيناه فأعدت تقبيل يده شاكرا وداعيا له بالصحه وطول العمر



وأبلغت فتاتي بالتطورات الأخيرة ‏..‏ فنقلتها لأبيها وهي تظن أنه سوف يلين فإذا به يصر علي رفضي وعلي أن ترتبط بالآخر الثري‏..‏ وصارحتني فتاتي بيأسها من أبيها وألحت علي في عقد القران‏,‏ ورفضت للمرة الثانية فغضبت مني غضبا هائلا وتوقفت عن مقابلتي والاتصال بي‏,‏ وتوقعت أن تخاصمني أسبوعا ثم ترجع إلي فإذا بالفترة تطول وتمتد لأسابيع‏..‏ واستشعرت الخطر واتصلت بها فإذا بها تنفجر في البكاء وتبلغني أنه قد تم عقد قرانها علي العريس الجاهز وتطلب مني عدم الاتصال بها ثانية وترجو لي السعادة مع غيرها‏..‏
فوضعت السماعة وظللت في مكاني ذاهلا حتي نبهني من يريد استخدام التليفون ‏..‏ فتحركت وأنا لا أري الطريق‏,‏ وعدت للبيت واستلقيت علي الفراش وأغمضت عيني متظاهرا بالنوم‏..‏ وراحت الصور المرئية تتوالي أمام مخيلتي وتعرض علي ذكريات خمس سنوات من الحب والصفاء لاتشوبها شائبة واحدة‏,‏ ولم يغمض لي جفن ليلتها ولم أذهب للعمل في اليوم التالي‏,‏ ثم امتثلت للأمر الواقع وأبي يرقبني في فهم‏,‏ ويقترح علي السفر إلي أخي في الصعيد لبضعة أيام لتغيير الجو‏,‏ وأفكر في اقتراحه فأجده حكيما وبالفعل أحصل علي إجازة من العمل وأسافر إلي أخي وأنزل معه في استراحة الشرطة‏,‏ وأروي له ما حدث وأتشاغل عن همومي بالزيارات ورؤية الحياة هناك‏..‏ وأرجع إلي القاهرة وأشعر بعد عودتي للعمل بأن قلبي قد أغلق أبوابه تجاه الجنس الآخر وأنه يتعذر عليه أن يستجيب لأي فتاة أخري‏,‏ بعد حب العمر‏,‏ خاصة أن أقساط الشقة تلتهم معظم راتبي وأجدني طوال الشهر بلا نقود‏.‏ فأرجع للبحث عن عمل اضافي وأمر بمقهي الذكريات السعيدة ذات مساء فأعرف من الجارسون أنهم يحتاجون في المقهي إلي مساعد جارسون يعمل‏7‏ ساعات كل يوم‏,‏ وأن الأجر‏150‏ جنيها عدا البقشيش‏,‏ واسأل عن مهمة هذا المساعد‏,فأعرف أن مهمته هي حمل الطلبات من البوفيه إلي الزبائن واعادة الفوارغ للبوفيه فقط لكنه لا يسجل طلبات الزبائن ولا يحاسبهم علي ما شربوه‏,‏ وأفكر في الأمر بعض الوقت ثم أعرض نفسي عليه‏,‏ وينتهي الأمر بالتحاقي بهذا العمل من الخامسة مساء حتي منتصف الليل كل يوم وبفضل هذا العمل بدأت أجد في يدي بعض النقود بعد سداد قسط الشقة‏,‏ بل وبدأت أدخر بعضها أيضا ولم يعترض أبي علي عملي بالمقهي لأنه يحترم كل عمل شريف‏,‏ وإنما جاء الاعتراض من أخي ضابط الشرطة‏,‏ وغضبت منه لاني شعرت أنه يفكر في نفسه وهو يعترض علي عملي وليس في وصارحته بذلك فسحب اعتراضه وقبل رأسي وأشاد بكفاحي‏.‏



وبعد فترة ترقيت في عملي وأصبحت جارسونا يسجل طلبات الزبائن ويحاسبهم ويتلقي منهم البقشيش‏,‏ وكنا اثنين فقط نقوم بهذا العمل مع ثلاثة من المساعدين‏,‏ واكتشفت أن عمل الجارسون وإن كان من أشق الأعمال من الناحية الجسدية حيث يظل في حركة متصلة طوال فترته إلا أنه أيضا من أكثر الأعمال الصغيرة عائدا‏,‏ إذ كان متوسط دخلي منه لا يقل عن‏600‏ جنيه في الشهر وهو أكثر من ضعف راتبي من الهيئة التي أعمل بها‏,‏ وفي هذا العمل اكتسبت خبرة ثمينة بالحياة‏..‏ وبالتعامل مع البشر‏,‏ وشهدت فيه أيضا لحظات عصيبة وأخري بهيجة‏..‏ لكن أصعب اللحظات علي الاطلاق كانت حين لمحت ذات مساء وأنا أحمل صينية الطلبات فتاتي السابقة تنزل من سيارة حديثة بصحبة شاب رياضي مفتول العضلات وتتجه إلي احدي الموائد علي الرصيف في الناحية التي أتولي الخدمة فيها‏,‏ فلقد شعرت بدوار شديد ووضعت الصينية علي مائدة خالية وجلست ألتقط أنفاسي للحظات ورأني زميلي الذي يعمل في الناحية الأخري جالسا فجاءني مستفسرا عما ألم بي وكنا قد أصبحنا صديقين فصارحته بأن من كنت أتمني الزواج منها وفرقت بيننا الظروف تجلس في المائدة القريبة مع زوجها وأنني أخشي أن تراني وأنا أقوم بهذا العمل فعرض علي أن يتولي هو خدمتها وخدمة المقهي كله حتي تنصرف ‏..‏ وكدت أقبل عرضه لكني تمالكت نفسي بعد لحظات وفكرت أنني أكافح بشرف في الحياة وليس لدي ما أخجل منه فشكرت زميلي وقلت له إنني سأواصل عملي بطريقة طبيعية‏..,‏ وبالفعل سلمت الطلبات التي أحملها للزبائن ثم اتجهت إلي مائدة فتاتي السابقة وحييت الجالسين وسألتهما عن طلباتهما‏..‏ فطلب الشاب شايا ثم أشار إلي زوجته‏.‏ وكانت قد عرفتني بالطبع فألجمت المفاجأة لسانها‏..‏ وربما استغرقتها الذكريات وأردت أن أنهي الموقف فقلت لها بصوت خافت‏:‏ الهانم تأمر بإيه‏,‏ فهمست بصوت لا يسمع بما تريد ولولا أنني كنت أعرف مشروبها المفضل الذي كانت تطلبه دائما وهي معي‏,‏ لما فسرت ما نطقت به وانصرفت من أمامها وأنا أشعر بأن نظراتها تخترق ظهري‏,‏ وظللت أشعر بعينيها تلاحقانني طوال نصف الساعة الذي أمضته بالمقهي ثم ودعتني بنظرة طويلة أثارت شجوني وجددت أحزاني‏.‏ ورويت لأبي وأمي ما حدث فسألني أبي مشفقا‏:‏ أمازلت تحبها؟ فأحنيت رأسي صامتا‏..‏ وتدخلت أمي في الحديث ونصحتني بالتفكير في الزواج بعد أن قاربت علي التاسعة والعشرين وأصبحت لدي شقة واستقررت في العمل‏..‏ ووعدتها بذلك وبعد ستة أشهر فوجئت بتليفون من فتاتي السابقة تقول لي إنها قد طلقت بعد زواج دام ثلاث سنوات لم تنجب فيه ولم تستطع خلاله التوافق مع زوجها وفشلت كل محاولاتها لأن تحبه لأن قلبها ظل مشغولا بغيره حتي سلمت باليأس وحصلت علي الطلاق رغما عن إرادة أبويها‏,‏ وأنها الآن حرة وتعمل عملا مناسبا ومستقرا‏,‏ وتسألني هل مازلت أحبها كما تحبني فصرخت في التليفون أنني أحبها ولم أحب سواها‏,‏ وأحلم باليوم الذي يجمعني بها‏..‏ وانتهينا إلي الاتفاق علي أن أتقدم لأبيها من جديد بعد أن تغيرت الأحوال‏,‏ وقبل أبي مصاحبتي مرة أخري إلي بيت أسرتها واستقبلنا الأب بالطريقة المحايدة نفسها واستمع إلي من جديد بلا حماس وأخفيت عنه بالطبع أنني أعمل في مقهي بعد الظهر لكيلا أعطيه المبرر لرفضي بحجة أن عملي لا يليق بمن يصاهره‏,‏ ولأنني اعتزمت عند الزواج أن أتوقف عنه بعد أن ادخرت منه مبلغا لا بأس به‏..,‏ وكانت المفاجأة حين أبلغنا والدها في الجلسة نفسها أن ظروفي مازالت غير مقنعة ولا ترشحني لمصاهرته‏,‏ فغادرته ساخطا وأنا غاضب من فتاتي لأنني ظننت أنها قد مهدت لي هذه المرة الطريق وضمنت موافقته‏,‏ ولم تتركني هي لغضبي طويلا فلقد اتصلت بي وأبلغتني فيما يشبه الأوامر وبغير مناقشة‏:‏ أحضر المأذون إلي بيت أسرتك يوم كذا الساعة كذا وسأحضر إليك لعقد القران‏..‏ مع السلامة‏!‏

ثم رفضت الرد علي التليفون المحمول بعدها طوال اليوم لكيلا تدع لي أي فرصة لمناقشتها واحترت في أمري واستشرت أبي فنصحني لإبراء ذمتي أمام أبيها بأن أبلغه بما قررته ابنته دون تحديد للموعد أو المكان وأسأله للمرة الأخيرة الإذن لنا بالزواج لكي يتم عقد القران في بيته هو‏,‏ واتصلت به وأبلغته وسألته الإذن فأجابني في برود وكبرياء أنه لا يأذن لي بعقد قراني علي ابنته‏..‏ وهي حرة في أن تفعل بنفسها ما تشاء لكنه سوف يقاطعها ويحرم عليها دخول بيته حتي يوم الدين إن هي ارتبطت بي علي غير رغبته‏,‏ وأغلق التليفون

واقترب الموعد المحدد وأنا لم أحسم أمري بعد‏,‏ وفي اللحظة الأخيرة واتتني نوبة شجاعة قمت خلالها بالاتفاق مع المأذون وأجريت الاستعدادات المطلوبة وجاءت فتاتي إلي البيت مصحوبة ببنتي خالتها وأربع صديقات لها ملأن بيتنا بالزغاريد من اللحظة الأولي وجاوبتهن أمي وهي في قمة الفرح‏,‏ وطلبت فتاتي أن تصلح زينتها فقدتها وصاحباتها إلي غرفتي‏..‏ وأغلقن الباب عليهن‏,‏ وجاء المأذون وقدم الشربات وخرجت عروستي وقد اتخذت زينتها وارتدت فستان الفرح الأبيض‏..‏ وتمت الإجراءات وسط الزغاريد والدموع‏..‏ زغاريد الفتيات ودموع عروسي الجميلة ودموعي ودموع أمي‏,‏ بل وأبي وأخي أيضا‏,‏ وانطلقت الفتيات يغنين مع أنغام الكاسيت وزوجتي تغني معهن وضحكاتها ترتج لها الجدران وصاحباتها يتضاحكن ويقارن بين كآبتها يوم زفافها السابق وفرحتها اليوم‏,‏ ثم بدأت الفتيات في الانصراف وأنا أتوقع أن تنصرف معهن زوجتي بعد أن تبدل فستانها الأبيض لكني رأيتها تودع ابنتي خالتها وصديقاتها بالقبلات وتبقي في الشقة فأدركت أنها قررت أن نتزوج علي الفور وليكن من أمرنا مايكون بعد ذلك‏!‏
وأعدت لنا أمي عشاء فاخرا ثم انفردت بعروسي في غرفتي وأنا أشعر بأنني أسعد انسان في الوجود‏..‏ وفي غرفتي عرفت خطة زوجتي للمستقبل وهي أن نقيم مع أسرتي إلي أن ننتهي من إعداد الشقة‏,‏ ولا بأس باستمراري في العمل بالمقهي حتي ذلك الحين‏,‏ علي أن أتوقف عنه بعد انتقالنا إلي عش الزوجية لبعده عنه قبل كل شئ‏,‏ علي أن أبحث لنفسي عن عمل إضافي آخر في أحد المكاتب أو أن أكتفي بعملي الصباحي‏.‏

وبدأنا حياتنا الزوجية‏..‏ وأصبحت زوجتي نجمة الأسرة وموضع اعتزاز كل أفرادها وحبهم‏,‏ واكتشفت فيها روحها الحلوة المتسامحة وعشرتها الجميلة وقدرتها علي اكتساب مودة الآخرين بطريقة تلقائية‏..‏
وبعد شهر واحد ظهرت عليها أعراض الحمل‏,‏ فبلغت سعادتها قمم الجبال وفسرت هي حملها من أول لحظة مني وعدم حملها علي مدي ثلاث سنوات في زواجها السابق بأنه فارق الحب‏!.‏


وكرست كل جهدي لتشطيب الشقة‏,‏ ورفض والد زوجتي الإفراج عن أثاثها المكوم في شقته القديمة نكاية فيها فلم تأبه لذلك‏..‏ واخترنا بذوق زوجتي أثاثا بسيطا وجميلا‏..‏ وانتقلنا إلي الشقة بعد ثلاثة أشهر من الزواج‏..‏ لكن زوجتي لم تنس أبدا الأيام التي أقامتها مع أبي وأمي‏,‏ وكثيرا ما فضلت أن نقضي بضعة أيام في شقة الأسرة‏,‏ خاصة حين اشتدت عليها متاعب الحمل‏,‏ غير أن شيئا واحدا فقط كان ينغص عليها حياتها وهو موقف أبيها منها‏..‏ فلقد كانت أمها بعد فترة غضب قصيرة تتصل بها وتسأل عنها‏,‏ بل وتلتقي بها من حين لآخر في محل عام لتطمئن عليها‏,‏ وكذلك كانت تفعل أختها الصغري وخالتها وأخوالها وأعمامها وأبناؤهم‏,‏ ماعدا والدها الذي ظل كالصخرة لايرق ولايلين ولا يرد علي اتصالاتها به ولا يتصل بها‏..‏ وإذا سمع صوتها في التليفون أغلق السكة بغير كلمة واحدة‏,‏ حتي اضطرت لأن تكتب إليه الرسائل كما لو كان يعيش في مدينة أخري‏,‏ لكي تستسمحه وتطلب رضاه وتشرح دوافعها لما فعلت‏,‏ بلا أي جدوي‏,‏ بل لقد علمت من أختها أنه لايفتح خطاباتها التي يميزها بخطها ويتعمد تركها مغلقة أمامهم علي مائدة السفرة عدة أيام لكي يعرف الجميع أنه لايأبه لابنته التي تزوجت علي غير إرادته‏..‏

وحتي حين وضعت زوجتي مولودها الأول زارها في المستشفي كل أهلها بلا استثناء وقدموا لها الهدايا والمجاملات ماعدا والدها‏..‏ وكان التنازل الوحيد الذي قدمه هو إنه لم يعد يعترض علي اتصال والدتها واختها بها أو زيارتهما لها‏,‏ والآن ياسيدي فلقد اقترب طفلي الوحيد الجميل الذي جمع حوله قلوب أهل زوجتي جميعا ـ ما عدا جده ـ وأهلي من نهاية العام الأول من عمره ومازال والد زوجتي يرفض أن يري حفيده الوحيد أو أن تزوره زوجتي حاملة طفلها معها ـ أو أن يزور هو ابنته أو يلتقي بها في أي مكان أو حتي أن يرد علي اتصالاتها ورسائلها إليه حتي الآن‏,‏ ولقد أعيتنا الحيل معه‏..‏ ووسطنا لديه كل أفراد أهله وخاصته بلا فائدة‏,‏ فماذا نفعل‏..‏ وكيف أقنعه بأنني غير طامع في ماله‏..‏ وأنني إنسان شريف أكافح بأمانة لإعالة أسرتي الصغيرة‏,‏ وقد تركت العمل بالمقهي والتحقت بعمل مسائي بإحدي الشركات ودخلي منه يوازي نصف دخلي من المقهي‏,‏ لكني رضيت بذلك لكي أسد عليه الثغرات‏..‏
إنه من قرائك فهل توجه له كلمة لكي يفتح أبواب قلبه المغلقة لابنته التي تحبه وتحترمه وتطلب رضاه ولم تفعل ما فعلت إلا بعد أن يئست من نيل موافقته علي زواجها بمن أرادت


ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:


لو كانت كل جناية زوجتك في نظر أبيها أنها قد تزوجتك علي غير إرادته بعد أن أعيتها الحيل معه لنيل موافقته‏,‏ أفلا يشفع لها عنده أنها لم تفعل ذلك إلا مضطرة‏,‏ وبعد أن تأكدت بما لا يدع لها مجالا للشك أنها لن تسعد بحياتها إلا مع من اختاره قلبها




وألا يشفع لها أنها قد لقيت حظا عاثرا في زواجها الأول الذي امتثلت فيه لإرادة أبيها وقبلت الزواج بشروطه فكان الانفصال وانهيار حياتها الزوجية‏,‏ وحمل لقب المطلقة هو مصيرها‏.‏



وألا تشفع لها عنده سعادتها الآن مع من اختارته لرفقة الحياة وتعمق روابطها به بعد الإنجاب منه‏..‏ وسعادة الابنة في حياتها الزوجية هي هدف كل الآباء ودوافعهم لما يتخذونه من مواقف بشأن زواجهن‏.‏


بل وألا يشفع لها عنده أن أنجبت أول حفيد له لكي تتحرك مشاعره تجاهه ويسعد به ويختبر معه تلك الأحاسيس البهيجة الجديدة التي يحركها الحفيد في قلب جده‏..‏



إن أهل الرزانة من البشر قد يطيش صوابهم فرحا وابتهاجا بأحفادهم‏,‏ وتفيض قلوبهم حبا ورحمة بهم‏.‏


ولقد روي عن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه إنه كان شديد الحب لحفيديه من ابنته فاطمة الزهراء وغامر العطف عليهما والرحمة بهما‏,‏ حتي لقد كان يطيل السجود إذا ارتحله أحدهما وهو ساجد لكيلا يتعجله النزول عن ظهره‏,‏ كما كان لايشير إلي حفيديه هذين إلا بقوله‏:‏ ابناي الحسن والحسين‏.‏


فكيف يحرم صهرك نفسه من هذه النعمة الجليلة‏..‏ نعمة أن يمتد به العمر حتي يري حفيدا له يلاعبه ويداعبه ويغمره بحبه وعطفه ورحمته ويري فيه امتدادا له وتواصلا متجددا مع الحياة؟


بل وكيف يحرم هذا الحفيد نفسه من حقه عليه في أن يسعد به ويلقي رعايته وعطفه؟



انني أربأ بوالد زوجتك أن يجحد نعم ربه عليه فلا يشكرها له سبحانه وتعالي ولا يشكره عليها‏,‏ والشكر هو الحافظ للنعم ومنها أن يكون له هذا الحفيد وأن تكون ابنته التي اضطرت لمخالفته شديدة الحرص بالرغم من ذلك علي استرضائه ونيل عفوه وصفحه‏,‏ ولو لم تكن كذلك لنفضت يدها منه وواصلت حياتها لا تأبه لمن يرفض يدها الممدودة إليه‏..‏ ويقطع رحمها‏,‏ ولا يظنن صهرك أن ابنته إنما تسعي إليه طلبا لمنفعة أو حرصا علي إرث منتظر‏,‏ إذ لو كانت الثروة غايتها لما فضلت الطلاق من زوجها الثري‏..‏ وارتبطت بشاب مكافح مثلك‏,‏ كما أنه يستطيع أن يتخذ من الإجراءات ما يكفل له التأكد من صدق نية ابنته وحرصها علي أن تستعيد صلة الرحم معه وزهدك كذلك في أي نفع يجئ من ناحيته‏,‏ بل يستطيع أن يحرمها من ماله وميراثه إذا أراد مخالفة شرع ربه في المواريث‏..‏ لكي يصدق أنه لا دافع لسعي ابنته إليه سوي رغبتها في أن تعفي نفسها من شبهة العقوق مع أنها لم تفعل ما فعلت إلا مضطرة وكارهة‏..‏


والفضلاء من الآباء والأمهات لايضعون ابناءهم أبدا أمام الاختيار الصعب بينهم وبين من يختارهم الأبناء لرفقة الحياة‏,‏ لكيلا يتأذوا أبلغ الأذي إذا اضطر الأبناء لاختيار شركاء الحياة دونهم‏,‏ ولقد يعترضون علي اختيارات الأبناء ويبذلون كل جهد لإقناعهم بوجهة نظرهم‏,‏ لكنهم إذا لمسوا إصرار الأبناء وأنه لم يبق أمامهم لنيل ما يرون فيه سعادتهم سوي الخروج علي الطاعة‏..‏ تنازل الآباء في اللحظة الأخيرة عن مواقفهم ومنحوا موافقتهم حتي ولو لم يكونوا مقتنعين بذلك‏,‏ برا بهؤلاء الأبناء وإشفاقا عليهم من دفعهم دفعا إلي شق عصا الطاعة عليهم‏..‏



فإذا كانت زوجتك تشعر ببعض الوزر لخروجها علي طاعة أبيها‏..‏ فالحق أن النصيب الأكبر منه إنما يتحمله هذا الأب نفسه بتحجره وعدم مرونته مع ابنته‏..‏ واني لأرجو له أن يعفي نفسه وابنته من هذا الوزر لكي تصفو له ولابنته الحياة‏..‏ ولكي يستمتع بما لم يجربه من قبل من أحاسيس ومشاعر وهو يداعب حفيده ويرقبه وهو يحبو ويخطو خطواته الأولي في الحياة‏,‏ ويتعلم نطق الحروف والأشياء وينثر البهجة والسعادة حوله‏..‏ إن شاء الله‏..‏


وفي اليوم التالي غابت فتاتي عن العمل ‏..‏ واحترقت بنار القلق والرغبة في معرفة قرار والدها بشأني‏..,‏ وانتظرت بفارغ الصبر ظهورها فلم ترجع إلا بعد ثلاثة أيام‏..‏ وبدت لي حين رأيتها مريضة وشاحبة الوجه‏..‏ وعرفت النتيجة بغير كلام‏..,‏ وواسيتها وطلبت منها الامتثال لرغبة أبيها الحريص علي مصلحتها‏,‏ فانفجرت في البكاء وأكدت لي أنها لن تتخلي عني مهما يحدث وستواصل الكفاح مع أبيها لإقناعه بمن اختارته‏..‏ واتفقنا في النهاية علي ألا نتخذ أي قرار بشأن مصيرنا فلا نقرر الانفصال أو الارتباط إلا بعد أن تيأس هي تماما من نيل موافقة أبيها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق