الأربعاء، 27 أكتوبر 2010

رحلة القطار من بريد الجمعة

رحلة القطار ..
اكتب اليك لالتمس عندك السلوى فيما اعانيه ويضيق به صدرى فأنا رجل فى الأربعين من عمرى.. توفى ابى منذ عشرين سنة تاركا لى اسرة مكونة من أم وثلاث شقيقات وشقيق واحد كان عمره حين رحل أبى عن الدنيا 6 سنوات، اما انا فقد كان عمرى وقتها عشرين عاما فقط وقد انهيت دراستى الثانوية وبدأت اتطلع الى الالتحاق بالجامعة فجاءت وفاة ابى فحطمت احلامى فى ان اعيش حياة طالب الجامعة التى طالما تمنيتها
وترك ابى وراءه محلا صغيرا لبيع قطع غيار السارات يفى بمتطلبات لأسرة بصعوبة وبعد ايام العزاء اجتمعت الأسرة الخائفة من المستقبل تبحث امورها.. فاتجهت الانظار الى تلقائيا وأحسست بوطأة المسئولية وأعلنت وقلبى يتمزق انى سأخلف ابى فى محله لكى تجد الأسرة ما يقيم أودها وقوبل اعلانى بارتايح عميق من كل افراد الاسرة مايقيم أودها وقوبل اعلانى بارتياح عميق من كل افراد الأسرة لعله غاظنى اكثر مما سرنى وألقيت بكتبى واحلامى وراء ظهرى واستقبلت مسؤليتى بقلب واجم وخائف من المستقبل وفتحت المحل فجاء زملاء أبى من التجار يشدون أزرى.. ويحيون رجولتى ويعرضون على خدماتهم وكنت فى حاجة اليها فعلا فى ايامى الأولى فى التجارة..ثم شيئا فشيئا عرفت اسرار العمل وثبت اقدامى فيه، وانتظم مورد الأسرة لكن العبء كان ثقيلا فلقد كانت شقيقاتى وشقيقى جميعا فى مراحل التعليم المختلفة وكانت الكبرى منهن فى الثانوية العامة ، وكان المحل مدينا ببعض الديون فعشنا فترة كئيبة من الضيق والشدة.. واجهتها بصبر لكن استقر فى اعماقى امتعاض دائم من ظروفى التى حكمت على بأن اتحمل المسئوليةى انا فى العشرين من عمرى بدلا من ان اعيش سنوات شبابى طليقا وغير يتحمل مسئوليتى ومضت الأيلم وبدأت اشعر اننى محور حياة الأسرة وان امى وشقيقاتى يبالغن فى العناية بى ومجاملتى ورغم ذلك فقد اصبح صدرى ضيقا مع كثرة النفقات وصعوبة المسئولية وأصبحت عصبيا تندفع منى احيانا الكلمات الجارحة رغما عنى لأخوتى واحيانا لأمى. فلا يقابلن ذلك الا بالدموع الصامتة، ومع ذلك فقد مضت ايامنا وحصلت الكبرى على الثانوية العامة والتحقت بالجامعة وتخرجت وجاءها من يخطبها فقمت بواجبى معها فى حدود امكانياتى. ثم لحقت بها الأخت التالية لها وتخرجت وتزوجت وتخففت من بعض أعبائى فقررت ان اتزوج وتوجت من ابنة مدير بالمعاش من جيران الأسرة انضمت الى شقتنا الواسعة فى احياء القاهرة القديمة.

وطوال هذه السنوات الصعبة كنت اتطلع الى شقيقى الأصغر واتعجل السنوات لكى ينهى تعليمه ويشاركنى فى حمل مسئولية الأسرة، ومن سن العاشرة بدأت افرض عليه ان يقف فى المحل لعدة كل يوم وكان كأى صبى يضيق بذلك ويحاول احيانا ان يتملص منه، فلا اسمح له بالفكاك وانهره بعنف فيستسلم باكيا.. ثم استقر الخوف منى فى اعماقه فأصبح لا يحتمل اشارة منى لكى ينفذ ما آمره به.. وبررت ذلك لنفسى بأنى اريده ان يتحمل المسئولية لمصلحته لكنى رغم ذلك كنت احيانا ارق له وأراه غلاما محروما من الحنان لكنى لم أظهر له هذا العطف ابدا ومع تقدمه فى الدراسة كانت ساعات عمله فى المحل تزيد، حتى جاء وقت لم يكن لدى عمال فيه فكان هو المساعد الوحيد فى المحل، الذى يفتحه فى الصباح ويبقى فيه حتى الليل فى ايام الاجازات، لذلك لم يكن متفوقا فى دراسته لكنه كان ينجح لأن ظروفنا لا تحتمل ان يتأخر سنة واحدة.. الى ان جائت الثانوية العامة ورسب فدعوت الأسرة وعقدت له جلسة تأديب انهلت عليه فيها باللوم والتقريع.. ثم اعمانى الشيطان شفى لحظة حمق فانهلت عليه صفعا امام شقيقاته.. فلم يزد عن ان حمى وجهه بذراعيه واحنى رأسه وهو يصيح من بين بكائه حانجح السنة الجايا ياخويا.. الدكان خد منى وقت ياخويا، وافقت فجأة من غيى فعدت الى مقعدى لاهثا وشقياتى واجمات يحبسن دموعهن خوفا من انفجارى فيهن وانسحب هو الى غرفة أمى وبعد ان خلوت لنفسى.. اكتأبت لما بدر منى وارقت ليلتها فلم يغمض لى جفن وذهبت الى المحل فى اليوم التالى عليلا..

وكان المعتاد ان يحضر الى المحل فى فترةالظهيرة شفيجلس مكانى .. لكى استريح وقت الغذاء .. وتوقعت الا يحضر وان يخاصمنى لعدة ايام .. ووطنت نفسى على ان اصالحه واسترضيه خاصة انه لم تفلت منه كلمة سيئة ضدى فى قمة اهانتى له وعدوانى عليه وبلغت الساعة الثالثة فطلبت من الصبى ان يغلق المحل لمدة ساعتين وتهيأت للآنصراف فاذا بى المح شقيقى قادما منكسرا، يحيينى وهو خافض الرأس ويعتذر عن تأخره بأنه ذهب الى المستوصف يطلب علاجا لأن عنده الما فى جنبه ، فكادت الدمعة تظفر من عينى وقاومتها بصعوبة وقلت له ولماذا المستوصف.. سأذهب بك الى اكبر طبيب فى المساء، واذهب الآن واسترح فأصر على ان يجلس فى المحل بدلا منى، فتركته وعدت للبيت وفى المساء اصطحبته للطبيب فاعطاه علاجا وطمأنته عن حالته ، وعندما بدأت الدارسة حاولت ان اعفيه من فترى الظهيرة لكى يتفرغ للمذاكرة لكنه رفض باصرار فكنت اراه يسهر الليل يذاكر ويقف فى المحل نهارا وصحته تذبل من آثار قلة النوم، وظهرت النتيجة فكان من الناجحين ولكن بمجموع ضعيف لا يؤهله للالتحاق بالجامعة فالتحق بمعهد فوق المتوسط وأصبح يجد وقتا اكبر لمساعدتى وخلال هذه الفترة تطورت علاقتى به تطورا جديدا.. فقد كنت اعطيه مصروفا شهريا عشرة جنيهات ينظم حياته بها ، فجاء ابن الحلال الذى همس فى اذنى ان اخاك يصاحب شلة فاسدة من شباب المعهد وانهم يدخنون السجائر ويصادقون الفتيات، فلعب الفأر فى عبى ان يكون الشيطان قد اغواه فبدأ يمد يده الى نقود المحل فى فترة غيابى .. وواجهته بذلك فبكى وما وما كان اسرع بكائه .. وقال لى كلمة ظلت توجعنى طويلا هى: اننى ابن فلان مثلك وقد كان رجلا طيبا عارفا بالله فكيف أكون خائنا؟ ولمن؟ لأخى الذى ربانى وفى مال اسرتى التى تعيش منه أمى وأختى التى مازالت فى الجامعة فأنهيت الموضوع لكنى بدأت اراقبه خفية فلا اجد مايريب فهو يصلى الفروض فى اوقاتها.. ولا يدخن .. وهو المهموم دائما بأمر اخوته البنات ولاذى يقضى حوائجهن ويرعى اولاد المتزوجين فيهدأ خاطرى قليلا ثم تعود الوساوس تطاردنى من جديد فأسىء معاملته فيتحمل ويصبر الى ان اعود الى حالتى الطبيعية وهكذا مضى الحال الى انتهت دراسته فى المعهد وحصل على الشهادة وأدى فترة تجنيده.

وخلال هذه الفترة كانت تجارتى قد نجحت واستقرت وتخلصت من كل المتاعب فأعدت تأثيث شقتنا الواسعة واشتريت سيارة. وبدأت اطمئن للمستقبل وأجنى ثمرة كفاحى. وفى هذه الفترة ايضا اشتريت المحل المجاور لى وضممته الى محلى وانفقت على عمل ديكور جديد له واصبح لدى عاملان يتقاضيان اجرا كبيرا وعاد شقيقى يساعدنى فى انتظار التعيين، وفكرت بينى وبين نفسى فى ان افرغه للمحل، وهو من دمى وله نصيب شرعى فى ا لمحل، وصارحته بذلك فقال لى انه يعتبرنى أبى والأب لا يختار لأبنه الا ما فى صالحه فان أردته فى المحل فهو معى وان اردته الوظيفة فسينفذ رغبتى وسيكون الى جوارى دائما بعد الوظيفة فسينفذ رغبتى وسيكون الى جوارى دائما بعد الوظيفة، واتفقنا على ان يعمل فىالمحل فترة الانتظار وان يختار بعد ذلك وبدأ العمل بهمة، وكان للحق شعلة من النشاط والذكاء ومحبوبا من كل من يتعامل معه او يعرفه، فهو خدوم وشهم وكريم فى حدود ما تملكه يده وهو قليل، فقد كنت اعطيه نصف مرتب العامل وكان راضيا بذلك لأنه صاحب مال كما يقولون وأصبحت اعتمد عليه فى اعمال كثيرة .. وفجأة عاودنى الوسواس القديم وكان سببه هذه المرة هو نفس السبب القديم شلة الأصدقاء الذيناراهم فاسدين ويراهم هو عاديين وكانوا زملاءه منذ الطفولة حىالمعهد وكنت لا ارتاح لهم وأشك شفى سلوكهم واخشى عليه من صحبتهم .

فنصحته بالابتعاد عنهم ورويت له عنهم ما لايس، فكان رده اننى لا استطيع ان اتحكم فى سلوك غيرى، وبدأت الوساوس تلح على من جديد وذات يوم رأيت معه ساعة جديدة، فسألته عن مصدرها فأخبرنى ان شقيقته الكبرى المتزوجة اهدتها له، فلم اصدقه وسألت اختى فأكدت ذلك وقالت انها اتشرتها له بالتقسيط من مرتبها حين لاحظت انه لا يحمل ساعة ولا يجرؤ عل طلبها منى فلم يسترح عقلى لذلك وشككت فى انها تدافع عنه لعطفها عليه.
وكانت اختى الثالثة قد تخرجت وخطبت ونستعد لجهازها وزواجها فكان صدرى ضيقا فانفجرت فيه بشكوكى مرة اخرى وخيرته بين الانقطاع عن هذه الشلة وبين المحل، وانصرف صامتا وللأسف ان هذه المكاشفة قد تمت فى المحل وامام العمال والزبائن فعرفوا انى اشك فى امانة اخى وسلوكه.. ولامنى كثيرون من الزبائن والتجار من جيرانى .. فزادنى ذلك عنادا وعدت للبيت فى المساء فلم أجده ..وعرفت انه سيقضى الليل عند خالته فزادنى غضبا وصممت على الا يعود للعمل الا اذا قاطع كل اصدقائه وانتزرته ان يعود بعد ايام خافض الرأس منكسرا كما تعودت منه لكنه لم يعد فتنازلت عن كبريائى قليلا وسألت عنه فكانت المفاجأة انه سافر الى الاسكندرية ليبحث عن وأنه اقترض نقود السفر من خالته. وأحسست بألم فى قلبى لكنى تظاهرت بالاستهانة وقلت بصوت عالى: فى داهية! وتنميت ان يفشل سعيه وان يعود منهزما ويقبل شروطى لكنه لم يعد ياسيدى، ومضى شهران قبل ان يأتى فى زيارة لأمه وشقيقاته اللاتى كن يتحرقن شوقا اليه وعدت الى البيت فى الظهر وكان جالسا مع زوجتى وأمى وشقيقتى ومن حوله سعيدات به فنهض مرتبكا حين رأنى ليحيينى.. فركبنى الشيطان فجأة واشحت بوجهى بعيدا عنه ودخلت الى غرفتى.. وجاءت ورائى زوجتى .. تلومنى فصرخت فى وجهها، اما هو فقد جلس لمدة دقائق ثم استأذن وانصرف ومن زوجتى عرفت انه يعمل عند مستورد لقطع الغيار اتعامل معه منذ سنوات وانه يقيم فى غرفة بحى شعبى وان هذا المستورد احبه ويثق فى امانته ويرسله الى الجمرك لتخليص بعض اعماله.

ولعب الفأر فى عبى وخشيت ان صحت الوساوس ان يعنى فى حرج فأتصلت به وسألته عنه فقال لى انه ولد سكرة ووجهه فيه القبول وكلما ارسله فى مهمة يسرها الله على يديه وانه يشكرنى على التنازل له عنه! واحسست بالفخر والغيرة معا، ومع ذلك فقد حرصت بمنطق التجار الا لعنة الله عليه على ان أوكد له أننى غير مسئول عن اى تصرفات له، فقاطعنى رافضا الاستماع وانتهت المكالمة ..
واستمر الحال هكذا .. وقد اصبح يأتى الى القاهرة مرة كل شهر فواصلت تجاهله .. مع حرصى على ان اعرف اخباره من زوجتى وسعت امى كثيرا لكى تصلح بينى وبينه، فتمسكت ان ينفذ كل شروطى وان يبتعد عن شلته الذين يحرص على زيارتهم كلما جاء من الاسكندرية والذين يزورونه هناك كما سمعت.

ومضى عامان ثم ابلغتنى امى انه ارتبط بفتاة بائعة فى محل المستورد وانه يريد خطبتها ويطلب منى الأذن فسألت عن التفاصيل وتأكدت من انه نسب غير ملائم وان مستوى اسرتها الاجتماعى منخفض جدا، فقلت لأمى انه يريد ان يجلب لى عارا جديدا كما فعل حين عمل عند احد من اتعامل معهم وبامكانه ان يتزوج من اسرة افضل منها فهو فى النهاية ابن ناس طيبين ورفضت الموافقة باصرار.

وبعد ايام جاءنى منه خطاب يطلب فيه ان اصبفح عنه ويقول لى انه لا يعرف له أبا غيرى ويطلب منى حضورى حفل خطبته فلم ارد عليه، وجاء بعدها بأسبوعين وزارنى فى المحل فلم احسن استقباله ومع ذلك فقد جلس وروى لى وهو خجلان قصة ارتباطه بهذه الفتاة وطلب "تشريفى" حفل خطبته.. فهززت رأسى ان لا فسكت قليلا ثم طلب بصوت خافت ان اسمح لأمى وشقيقاته بالحضور نيابة عنى لكيلا يبدو امام اسرة حطيبته بلا أهل .. فهززت رأسى مرة اخرى فسكت قليلا ثم قال كتر خيرك، والقى السلام وانصرف، وبكت امى طويلا فلم استجب لها واعلنت رفضى لذهاب شقيقاتى.. فبكين وأشفقن عليه من يكون وحيدا فى يوم خطبته فلم اتراجع وقد سلط على ذهنى انه يعاندنى ويريد ان يجلب لى العار ولا شى غير ذلك.. مع انه شاب ومن حقه ان يحب ويتزوج.. لكن هكذا صور لى العناد.. فهددت من تذهب من اخوتى وأمى الى الاسكندرية بمقاطعتها فرضخن ـساخطات، وطاف هو عليهن يرجوهن الا يزعلن لأنه يعذرهن ولا يرد لهن المشاكل معى.. وودعنه جميعا كما عرفت بالقبلات والدموع حتى زوجتى بكت وصرخت فى وجهى بأنى ظالم وانه لولا انها لاتريد ان تزيد من ألامى لما قبلت السكوت على هذا الظلم ولذهبت الى خطبته وهو الشاب المؤدب الذى لم تر منه منذ زواجها بى الا كل خير وفى وسط كل ذلك قررت خالتى وكانت تحب شقيقى حبا خالصا وتشفق عليه ان تذهب هى وزوجها والاودها الى الاسكندرية لتخطب له هذه الفتاة نيابة عن امى وليضرب فلان الذى هو انا رأسه فى الحائط لأن الله لا يرضى بالظلم.. ولأنى كما قالت سامحها الله ظلمته صغيرا وكبيرا ولا اريد ان ارجع عن ظلمى وذهبت فعلا وعادت تروى لأمى كيف استقبلها بالدموع وتقبيل يديها لأنه لم يكن يتوقع حضورها وكيف احتضن زوج خالته وقبل رأسه معربا عن شكره.. وكيف استقبل بنات وأولاد خالته بفرحة جنونية، وان اسرة فتاته اسرة طيبة رغم فقرها وأنهم يحبونه ويحترمونه، وكيف انها عاشت اسعد ايام حياتها فى هذا الفرح البسيط، وانها زغردت من قلبلها واصدقاؤه الذين سافروا اليه من القاهرة.. واصدقاؤه الجدد من الاسكندرية وهو يكسب الأصدقاء سريعا، يزفونه بالسيارات حول ضريح ابو العباس المرسى وهو يضحك سعيدا والدموع لا تفارق عينيه وان التاجر الذى يعمل عنده هو الذى رتب له الزفة واعطاه نقوطا كبيرا مكافأة له على نشاطه وأمانته وسمعت كل ذلك وأحسست بالندم يلسعنى على موقفى منه لكنى تظاهرت بتجاهل الموضوع وعرفت من زوجتى انه سيقيم مع اسرة خطيبته بعد الزواج الى ان يجد شقة، ومضت اسابيع وبدأت اثار الخطبة وحرمان الأسرة من الاشتراك تخف تدريجيا وعاد يزور امه وشقيقاته ويحكى لهن عن خطيبته وعمله وحياته هناك.. وكان من بين ما رواه لهن ان آلام جنبه قد عاوته بسبب ساعات العمل الطويلةى فذهب الى المستشفى الأميرى فى الاسكندرية وعالجه الأطباء وشفى والحمد لله.

ومضى عام آخر والموقف بيننا لم يتغير فهو يحيينى حين يدخل فأرد تحيته فاقتضاب.. فاذا غلبنى حنينى اليه واردته ان يحكى لى عن نفسه او يطلب منى الرجوع .. او السماح كما كان يفعل فانه يحكى لدقائق لا تشبع .. حنينى وشوقى له ثم يصمت.. كأنه لا يجد ما يقول وينسحب بعد قليل وجاء مرة فى زيارته المعتادة فلاحظت عليه الارهاق فسألته عما به فروى لى انه احس بالتعب فذهب الى المتشفى الاميرى وانهم اجروا له فحوصا عديدة اتعبته أكثر .. لكنه تحسن الآن والحمد لله.. فانخلع قلبى .. وامسكته من يده وذهبت به الى طبيب كبير فطلب أشعات وتحاليل فحاول الاعتذار لأنه مضطر للسفر فاقسمت عليه بالطلاق الا يسافر الا بعد اجراء الفحوص والتحاليل وعدنا للطبيب فوصف العلاج له وطلب منه الراحة ورجعنا الى البيت فطلبت منه الا يعود للاسكندرية نهائيا وان يستريح فى البيت وأعلنت له انى سأنفق على علاجه كل ما املك.. وسأدعو خطيبته وأسرتها لزيارته هنا ، فابتسم فى ضعف وقال لى انه لابد ان يعود ويعمل لأنه مدين لصاحب العمل بجزء من قيمة الشبكة ولبعض اصدقائه هناك ببعض المال لأنه اشترى دواء واجرى فحوصا كلفته الكثير فطلبت منه ان يبقى وسأسدد ديونه مهما كانت وانه ليس فى حاجة للعمل وهو مريض..

والححت عليه فى ذلك وأردت ان احلف عليه مرة اخرى فسد فمى بيده.. ثم امسك يدى وقبلها وشكرنى بحرارة راجيا ان اكرمه بتركه يسافر لأن حياته اصحبت هناك.. وسوف يواظب على العلاج فوافقت مرغما وأوصلته للقطار واعطيته نقودا رفض ان يأخذها والححت عليه وذكرته بأن له حقا فى المحل الذى تركه ابوه وهذا جزء منه فقال لى وهو يبتسم متعبا: لقد اخذت حقى وزيادة بلقمتى وطعامى فى سنوات تعليمى..فاذا كان لى عندك حق فأعطه لأمى ولشقيقاتى ثم تحرك القطار وصورته وهو يبتسم فى ضعف لا تفارقنى وعدت الى البيت مهموما ولم انم الليل وفى الصباح كان اول ما فعلت حين ذهبت الى المحل هو ان اتصلت تليفونيا بالتاجر الذى يعمل معه اخى لأطمئن منه عليه وابلغه انى سأسدد دينه عنده..وارجوه ان يرفض عودته للعمل ويعيده للقاهرة حتى تتحسن صحته.. فما ان عرفنى حتى قال لى واجما: كنت سأتصل بك الآن فورا انتظرنا نحن قادمون اليك بعد ثلاث ساعات .. البقاء لله! وصرخت من اعماقى وسقطت السماعة من يدى وجاء جيرانى مفزوعين .. واركبونى سيارة احدهم وأعادونى للبيت وبعد ساعات وصل الركب الحزين وبدأت رحلة الوداع وحولى اصدقاؤه واحباؤه الذين طالما كرهتهم وأسات الظن بهن يولولون ويصرخون كالثكالى ويتدافعون لحمل صاحبهم ..

ووقفت فى المساء فى العزاء منهارا اصافح الأيدى ولا ادرى بها .. وجاء اصدقاؤه فما ان وضع اولهم يده فى يدى حتى بكيت كالطفل فشجع ذلك احدهم على ان يقول لى: لقد مضى كل شىء وراح لكنى اشهد الله امامك ان شقيقك كان مثال الامانة والشهامة والاخلاق وان يده لم تمتد الى حرام.. ولم يرتكب معصية.. واننا كنا اخوة فى الخير لا فى الشر وان اقصى ما فعلناه مما كنت تعيبه علينا اننا كنا ندخن فى مرحلة المعهد لكننا لم نعرف الخمر ولا المخدرات كما كنت تتصور وعاش اخوك ومات لم يدخن سيجارة فقال: لكن السنة السوء لا تدع الناس فى حالها.. فسألته فجأة هل كرهنى لما لعلت معه؟ فقال: لم يذكرك مرة بسوء حتى وانت تقسو عليه.. وكان يقول لنا دائما لا تظلموه فلقد حمل الهم صغيرا.. وهو اخى وابى الذى لم ار غيره ويكفيه ان ستر شقيقاتى اما انا فرجل واستطيع ان اتحمل.

فاسترحت قليلا .. لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن ينبىء براحة فبعد رحلي اخى خيم الحزن على بيتنا واستقر فيه وبدأت احس باكتئاب شديد افقدنى حماسى للعمل.. فأصبحت انهض احيانا من النوم فلا أشعر بميل للذهاب للمحل ولا لمغادرة اليبت وضاعف من حالتى .. انى أحس باتهام صامت فى عيون امى وشقيقاتى بأنى ظلمت اخى وقبرته.. مع انى يعلم الله لم ارد سوى مصلحته حتى وان اسأت التصرف وقد استقر الفتور فى علاقتى بأمى وشقيقتى الكبرى التى كانت اكثر الشقيقات عطفا على اخى الراحل بالذات اما خالتى التى تحثنى بالذهاب الى خطيبته فقد حاولت مصالحتها بعد رحيله فانهالت على بالاتهام والتجريح وزادت من معاناتى وسافرت الى الاسكندرية وذهبت الى التاجر الذى عمل معه اخى وشكرته وسددت له دينه فأبى بكل اصرار .. وقال انها كانت هدية منه لشاب كريم وليست دينا عليه .. وقد ساءت حالتى الآن حتى اصبحت لا اذهب للمحل الا مرتين او ثلاثا فى الاسبوع والى جانب ذلك فأنا اصحو كل لية عند نومى عدة مرات وقد توقف تنفسى وقلبى ووصلا الى مرحلة الاختناق .. وفى كل ليلة يجيئنى اخى فى المنام واراه عابسا وهو الذى لم اره الا مبتسما فى حياته حتى حين كان يغلبه الدمع ، وذهبت الى الطبيب فأحالنى الى طبيب نفسى شخص حالتى بأنها ميول اكتئابية واعطانى بعض الأدوية، وانا الأن اواظب على العلاج لكنى لا انام جيدا.. وقد فقدت كل الاشياء قيمتها عندى فلم تعد عندى رغبة فى النجاح ولا الثراء وأسأل نفسى كل حين مامعنى كل ذلك وأنا لم انجب اولادا ولا بنات ولم يعد لى اخ ثم ماذا يعنى هذا المحل.. وهذه التجارة ولم تعد فى مسؤايتى سوى امى وما هذه الجدران والرفوف التى تصورت فى حمقى انها اهم من شقيقى الوحيد وان على ان احميها منه بابعاده عنها ومتى يبتسم وجه اخى حين يزورنى فى الليل واين راحة القلب والضمير .. اين؟

ولكاتب هذه الرسالة اقول:
راحة القلب من راحة الضمير ياسيدى وانت مؤرقالضمير باحساسك بالذنب تجاه شقيقك الراحل الذى ظلمته كثيرا بوساوسك وخوفك المبالغ فيه على الجدران الصماء التى عرفت الآن انها لا تساوى قلامة ظفر والحق انى اعجب كثيرا من حالنا نحن البشر حين نعمى احيانا عن بعض الحقائق الأولية.. فلا نتنبه اليها الا بعد رحيل الأعزاء وغياب من لا يعوضنا مال الدنيا عن غيابهم كما اعجب من حماقة المرء حين نخص بعض اعزائنا الذين يبدون امامنا مسالمين مستسلمين بايذائنا.. فاذا فقدناهم عرفنا اننا قد خسرنا بفقدهم والى الابد من كانت محفورة فى اعماقهم محبتنا وهيبتنا، واكتشفنا حين لا ينفع الندم اننا لن نلقى فى الحياة بعدهم الا من لا يردعهم حب او احترام عن رد ايذائنا الينا اذا عاملناهم بنفس الطريقة.. فأى حماقة بشرية نرتكبها فى حق انفسنا واعزائنا؟ ولماذا نفتقد فى بعض المواقف حكمة الاعرابية الأمية التى لا تقرأ ولا تكتب والتىادركت هذه الحقيقة البسيطة منذ عشرات القرون حين وضعت امام اختيار صعب بين الأهل.. فقالت فى نهاية حديث طويل كلمتها الشهيرة" اما الأخ فلا يعوض مشيرة الى ان الانسان لا يستطيع ان يشتريه بمال قارون .. ولو ملكه.
وقد عرفت ذلك كله الآن بعد ان ظلمت اخاك طويلا.. ويؤرقك احساسك بالذنب تجاهه .. وتتمنى لو تعرف انه قد سامحك لكى يطمئن جانبك.. ولست أظن امثالهـ ممن يعبرون الحياة فى رحلة قصيرة لا يعرفون فيها سوى الآلام والاحزان .. ولا يأخذون من اتلدنيا خلالها شيئا قادرين على عدم الصفح عمن اذوهم .. وهم من يغفرون للحياة اصلا ما لا قوة فيها من ظلم ومعاناة لكن لا تستكن الى ذلك.
سيدى وانما اعن نفسك على التطهر من الذنب تجاه اخيك باعلان باءته من كل الشكوك والهواجس عند كل من وصلت اليهم شكوكك وهواجسك، واقض دينه عنه لأصحابه وهو بعض ماله من دين فى عنقك وقد كان كما عرفته كريما غنى النفس عزوفا عن التطلع الى مابين يديك وهو المحروم منه وصاحب الحق فيه .. ولعلك تعرف بعد ذلك ان الاسنان يتطيع ان يكرم العزيز الراحل باكرام صاحبه وانت قد عرفت الآن ان اصحابه لم يكونو عند سوء ظنك .. فلا تشح بوجهك عنهم بعد الآن وتقبلهم قبولا حسنا .. ثم احرص على ان تزور اسرة خطيبة شقيقك التى تعليت عليها فى الماضى وتعرف على من اختارها قلبه واعتذر لها عن مجافاتك لها ثم صل بعلاقات المودة هذه الاسرة المكافحة النى احتضنت اخاك حين لم يجد منك نصيرا فتشرفه فى غيبته النهائية بعد ان فاتك هذا الواجب فى حياته.
يبقى بعد ذلك ان تتوجه بقلبك الى الله طالبا العفو والمغفرة .. فان ظلمك لأخيك وطمع الدنيا الذى اعماك فى بعض الفترات عن اداراك انه كان نعم الأخ لك ونعم الرفيق، وتسلطك على اسرتك ومنعك لها من مشاركته الفرحة الوحيدة تقريبا فى حياته القصيرة الحافة بالآلام.. كل ذلك فى ظنى من الكبائر التى لا يمحوها الا الاستغفار وصدق الندم " وان تستغفروه يغفر لكم" فادع الله كثيرا لنفسك بالمغفرة. وخير الدعاء العمل الصالح الذى يقصد به الانسان وجه ربه فاحرص على رحمك وعوض امك بعض ما تجرعته من آلام واحزان وتصدق كثيرا باسم اخيك .. وانثر الخير حولك واينما توجهت.. يبتسم لك وجه اخيك فى رؤياك وتنج من عذاب الضمير وشبح الاكتئاب.. وأهم من كل ذلك .. من عقاب السماء .. الذى أعده الله للظالمين



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق